خلال دقائق، خسر محمد والده ثم والدته فابن شقيقته (اربع سنوات)، سقطوا امام عينيه واحداً تلو الاخر من دون أن يتمكن من انقاذهم، على غرار نحو سبعين مدنيا قتلوا الثلاثاء اختناقا جراء هجمات بغازات سامة على مدينتهم السورية.
في مدينة خان شيخون الواقعة في محافظة ادلب (شمال غرب)، تخيم حالة من الحزن الاربعاء على السكان الذين لم يستفيقوا بعد من هول الصدمة، فيما فتحت بعض المنازل ابوابها لاستقبال المعزين او المطمئنين الى المصابين.
غداة الهجوم، بالكاد يقوى محمد، شاب في العشرينات من عمره، على فتح عينيه الزرقاوين. ويقول لوكالة فرانس برس بصوت متقطع "امس استشهد ثلاثة من افراد عائلتي، ابي وامي وابن اختي الصغير.. ذهبوا جميعاً الى ربهم".
وقتل 72 مدنيا على الاقل بينهم عشرون طفلا واصيب 160 اخرون وفق المرصد السوري لحقوق الانسان جراء قصف جوي بغازات سامة صباح الثلاثاء على مدينة خان شيخون. واتهمت المعارضة السورية وعواصم غربية عدة ابرزها باريس ولندن قوات النظام السوري بشن الهجوم، الامر الذي نفته دمشق.
يستعيد محمد بحزن اللحظات الصعبة التي عاشها وعائلته. يروي انه بعد سماع صوت "خرج ابي من المنزل بعدما راى احدهم على الارض.. وما أن وصل اليه حتى وقع بدوره أرضاً وبدأ يرتجف".
ويتابع بصوت خافت "بعدما ذهبت امي اليه بدأت تصرخ +تعالوا لتروا والدكم+ خرجت وشقيقتي وابنها الصغير، وكانت امي تصرخ وهي واقفة ثم ما لبثت أن سقطت ارضاً، تبعها الصغير ثم شقيقتي".
ويوضح "كانوا جميعهم يرجفون ثم يخرج الزبد من فمهم" ولم ينج احد منهم الا شقيقته.
ورغم تفكيره للحظات بامكانية استخدام غازات سامة في القصف، لم يفكر محمد بالاحتماء او الهرب. ويقول "لا يخطر على بالك ان تهرب بل تفكر بان تسعف الناس".
ولا يجد خيارا امامه سوى طلب الرحمة لعائلته و"الحارة باكملها" وبان "ينتقم الله من هذا الظالم".
لا تقل معاناة محمد عن مأساة عبد الحميد يوسف (28 عاما) الذي خسر 19 فرداً من عائلته واقاربه، بينهم زوجته وطفلاه.
جالسا على فراش على الارض والمصل معلق في يده داخل منزل احد اقربائه، يقول عبد الحميد وعيناه مغرورقتان بالدموع "استشهد ولداي أحمد وآية وزوجتي دلال" مضيفا بحسرة "الشكوى لله فقط".
ويروي كيف سارع الى منزله ثم منزل شقيقه القريب منه بعد القصف لاسعاف افراد العائلة قائلاً "اعتقدنا في البدء انها كجميع الضربات او غارة عادية، اسعفت عائلتي وعائلة الجيران الى الخارج".
ويتابع "ذهبت بعدها الى بيت شقيقي، اسعفت اول مجموعة واردت اسعاف الثانية، لكنني لم اعد اقوى على ذلك وانهرت هنا".
يستعيد عبد الحميد محاطا باقربائه الذين يلتزمون صمتا مطبقا، كيف كان جيرانه يفقدون الوعي. ويقول "بدأ يغمى على الناس الواحد تلو الاخر، لم يعد احد يقوى على اسعاف الاخر" مضيفا "الشخص الذي يحمل معنا ينهار ثم الثاني وهكذا.. حتى سيطر الغاز على الجميع".
وعلى غرار عبد الحميد، انهار قريبه عبد القادر (28 عاماً) خلال اسعافه الضحايا لكنه سرعان ما تعافى.
ويوضح اثناء وقوفه امام مبنى استهدفه القصف انه خلال مساهمته في نقل الضحايا "لم تكن هناك اي اصابات او شظايا" على اجسامهم مضيفاً "رأيت اعراض انهيار عصبي وارتجاف وسقوط على الارض ثم يخرج زبد من الفم".
وتحدثت منظمة الصحة العالمية الاربعاء في جنيف عن "مؤشرات تتناسب مع التعرض لمواد عضوية فوسفورية، وهي فئة من المواد الكيميائية تشمل غازات أعصاب سامة".
واكدت منظمة اطباء بلا حدود بدورها ان اعراض بعض الضحايا في خان شيخون "تظهر التعرض لعنصر سام من نوع غاز السارين" على غرار "حريق في العيون وتشنج في العضلات وتقيؤ".
اثار الهجوم على مدينة خان شيخون تنديداً دولياً واسع النطاق واستدعى عقد مجلس الامن اجتماعاً طارئاً في وقت أعلنت لجنة التحقيق التابعة للامم المتحدة حول حقوق الانسان في سوريا الثلاثاء انها "تحقق" في الهجوم.
وفي موقع احدى الغارات في شارع رئيسي في المدينة، عمل طبيب الاربعاء بوسائل بدائية مع احد مساعديه على رفع عينات من حفرة احدثها القصف ووضعها داخل اكياس بلاستيكية.
ويقول الطبيب الذي يعرف عن نفسه باسم حازم وهو مدير المكتب الطبي في المجلس المحلي في المدينة لفرانس برس "اخذنا من موقع الضربة اسفلتا وعينة من الصاروخ المنفجر وعينات حيوانية ونباتية".
وكان يمكن رؤية حيوانات نافقة بينها ماعز وعصافير بالقرب من موقع القصف، وفق ما شاهد مراسل فرانس برس.
إقرأ أيضاً: مؤتمر بروكسل يطالب بتحقيق دولي بمجزرة خان شيخون في سوريا
ويضيف وهو يضع كمامة من القماش على فمه "وعدونا بان فرقا من الامم المتحدة ستأتي لتكشف على الموقع، ولكي لا يضيع حق الشهداء نحتفظ بالعينات ونوثقها حتى عندما ياتي اي فريق (تحقيق) يكون شاهدا على ما حدث عندنا".
وعلى بعد امتار من موقع القصف في الشارع الذي يخلو من حركة السيارات والمارة، وضعت لافتة برتقالية عليها صورة جمجمة تحذر من خطر الاقتراب من الموقع.
وفي الشوارع الاخرى في المدينة، بدت الحركة خجولة جداً وشاهد مراسل فرانس برس حافلات وشاحنات صغيرة محملة بالعائلات والفرش والحاجيات اثناء مغادرتها المدينة.
ونقل عن سكان في المدينة عثورهم الاربعاء على عائلة باكملها متوفاة داخل مغارة كانت قد لجأت اليها خشية من القصف.
على كرسي امام منزلها، جلست والدة عبد الحميد بثياب سوداء تبكي وتنتحب افراد عائلتها واقاربها وجيرانها الذين قضوا بين ليلة وضحاها، في وقت كان ابنها يردد "ثمة رب لا ينام.. لا ينسى احداً".