في الجزء الأول من التحقيق، وثقنا بعض حالات محاولات الانتحار، لبعض الاشخاص، الذين كانوا يعانون من مشاكل نفسية، وقرروا اللجوء للطب النفسي، لعل الخلاص من الأسئلة الأثقل، يتخطونه من خلال العلاج في عيادات الطب النفسي.
اقرأ أيضاً : أردنيون على حافة الانتحار.. صرخة احتجاج وهرب من الواقع - فيديو
معظم الأشخاص الذين قابلناهم خلال التحقيق، لم يتمكنوا من زيارة عيادات الطب النفسي الخاص، لذلك لجأوا للعيادات الحكومية لارتفاع الكشفية الطبية لدى الطبيب الخاص، التي تصل في الجلسة الأولى ما بين 20- 40 دينارا اردنياً، وفقاً للائحة الأجور الرسمية.
أسيل" اسم مستعار" حدثتنا كيف أجبرتها الظروف الصعبة على تجرع الألم الاجتماعي، ما ضاعف من معاناتها، وجعلها أكثر هشاشًة، ولكن صدمتها عندما ذهبت لتدفع ثمن خلاصها، رست بها إلى مركز علاج الإدمان.
" زوجني ابوي لحدا ما شفته غير بالصالة من ذوي احتياجات خاصة لما قيموا عمره العقلي، طلع عمره 6 سنوات، عشت أيام كتير صعبة ببيتنا انا واخوتي الثمانية، حسوا أهلي إني مش منيحة وأخدوني عل المستشفى وعرفت بعد ما خبوا علي فترة إنه عندي اكتئاب".
أسيل تعاني من مرض الاكتئاب ثنائي القطب في حالته المتوسطة. التشخيص الخاطئ لحالتها زاد الأمر سوءا.
"رحت لدكتورة من دولة عربية فبقلها انا ما بنام تعبانه جد تعبانه.. كتبتلي دوا مهدئ كل مرة اروح تعطيني ياه، كنت اخد 15 حبة أو أكتر باليوم، وفي يوم خلص الدوا من عندي صرت افتح الجوارير بس بدي حبة ففعلا بلاقي حبة، صرت ابوسها وارقص وعرفت بوقتها انه مالني اشي".
عقب ذلك توجهت أسيل للعيادات الاستشارية النفسية التي كانت تراجع من خلالها، وشرحت لهم عما يحصل معها، عندها قاموا بإغلاق ملفها الطبي وتحويلها إلى المركز الوطني لتأهيل المدمنين في منطقة شفا بدران ليتم علاجها من الإدمان، ومكثت به ما يقارب سنة وسبعة شهور.
الأخصائية في علم النفس، الدكتور راوية البورنو توضح، "بأن هناك تسلسل بكيفية فحص المريض، ومن حق المريض أن يعرف المؤثرات الجانبية للأدوية التي تعطى له، من آثار جانبية أولية وحتى آثار جانبية على المدى البعيد، وتكمن مشكلة بعض الأطباء بأنهم لا يأخذون وقتهم الكافي للشرح للمريض".
أما تجربة محمد "اسم مستعار" الذي لجأ لعيادة نفسية خاصة، فلم تكن مختلفة كثيراً عن أسيل من ناحية تأثير الدواء المعطى للمريض، رغم أنه لم يكن يشكو بحسب قوله من مرض نفسي دائم، وإنما من عارض نفسي بسبب تراكم بعض المشكلات الشخصية، وصف له الطبيب دواءا لعلاج الاكتئاب ما دفعه بعد فترة من تناول الدواء للاقدام على الانتحار.
" الدوا لخبطلي جسمي ونفسيتي، ووصلني لمرحلة بعدين اني أحاول انتحر".
ياسمين "اسم مستعار" إحدى الحالات التي قابلناها في التحقيق، لتخبرنا عن قصتها، معللة بأنها تعرضت للظلم مرتين!
المرة الأولى عندما أرغمها أهلها على الخطبة بعمر مبكر، ومن ثم عندما دفعها هذا الارتباط الذي كانت تطمح من خلاله بالعثور على الخلاص في ظل رجل يساعدها، ولكن ظله كان ثقيلاً.
"قعدت شهر عشان يعطوني إبر، حكت الدكتور مع امي وحكتلها في إبر شهرية لازم أخدها، اخدتها اول الشهر واعطوني ياها كل اسبوع بدل كل شهر بعدها صار معي خربطة بالغدة ارتفعت عندي 4000 وصاروا يفرغوا من دمي بالزبالة عشان يرجع يتحسن الدم ويتجدد ويعطوني بداله كلكوز."
الأدوية التي اعطيت لياسمين وصفت لها بسبب تعرضها لصدمة نفسية، من قبل خطيبها الذي تركها عقب معرفته بأنها تعاني من مرض نفسي، واصبحت تأخذ شهرياً أدوية للاكتئاب.
" كنت خايفة خطيبي يعرف ويتركني لانه خطبيي لما يدرى رح يتركني وبالفعل لما فتت المستشفى تركني وكمان الناس لما يشوفوا وحدة مريضة نفسيا بقولوا مجنونة ما بحكوا زي أي مرض بحكوا مجنونة في اشي بعقلها".
قررنا معرفة ما يحصل بالفعل داخل أروقة العيادات النفسية الحكومية. ففي الأردن يوجد 50 عيادة نفسية حكومية خارجية، تابعة لوزارة الصحة ومنتشرة في مختلف محافظات المملكة، وموزعة ما بين المستشفيات العامة والمراكز الصحية الشاملة وحماية الأسرة ومراكز الإصلاح والتأهيل.
في العاصمة عمان يوجد أربع عيادات مستقلة وهي العيادات الاستشارية للطب النفسي .تمكنا من زيارة ثلاث عيادات حكومية، في عمان والزرقاء.
وحتى نتمكن من مراجعة العيادت النفسية الحكومية علينا مراجعة المراكز الصحية المجاورة لأماكن السكن، لنتمكن من أخذ تحويل طبي.
ومن هناك بدأت الرحلة..
خلال زيارتنا إلى محافظة الزرقاء، توجهنا إلى أحد المراكز الصحية القريبة من مكان السكن، لأخذ تحويل طبي إلى العيادة النفسية في مستشفى الزرقاء الحكومي، وخلال الحديث مع الطبيب لم يشجعنا على مراجعة العيادات النفسية بالمجمل، فبحسب قوله" الأطباء النفسيين رح يمشوكي عل الأدوية وهي الأدوية إلها مضار أكثر من فائدتها."
وعقب أخذ التحويل الطبي، اضطررنا أن ننتظر شهرين " من شهر تشرين الثاني / نوفمبر – حتى شهر كانون الثاني / يناير" لفتح ملف طبي، بسبب قلة عدد الأطباء للكشف عن الحالات المستجدة فقط يوم واحد، وأما بقية الأيام التي يعمل بها فهو يرى المرضى المراجعين، وعندما سألنا عن الساعة المحددة لموعد المراجعة، فقالت موظفة السجل" تعالي بكير.. بتيجي أول وحدة بتدخلي أول وحدة.. فش موعد محدد !"
وفي أول زيارة لنا إلى العيادات الاستشارية، قام الطبيب بإخراجي من غرفة المراجعة ولكنه سمح للسكرتيرة بالبقاء، ولحسن حظي لم تكن المسافة بعيدة بين غرفة المراجعة وقاعة الانتظار، خصيصاً وأن باب غرفة المراجعة كان مفتوحاً ولم يراعي الطبيب خصوصية المريض، فتمكنت من سماع كل ما قاله الدكتور بشكل واضح ولم يفتني أي شيء.
لم يمضِ على المقابلة 15 دقيقة، وقدم الطبيب شريحة دواء لعلاج الاكتئاب يسمى "ليستال" وموعد بعد اسبوعين، دون فتح ملفٍ طبي، أو صرف الدواء من الصيدلية المخصصة الموجودة في العيادة.
الداء في الدواء:
البورنو تؤكد بأن الدواء المعطى للحالة، هو من مضادات الكآبة الحديثة وجرعته كبيرة جداً، وله آثار جانبية أولية فقد يعمل على تثبيط الشهية للأكل، وزيادة في القلق، ويحتاج لفترة اسبوعين تقريباً ليبدأ باعطاء مفعول يحس به المريض.
" الغريب في الموضوع ليش الدكتور يعطي المريض دوا من درجه إذا الصيدلية مسكرة !! المفروض يتبع الاجراء الطبي المعتمد بفتح ملف طبي وأخذ تاريخ مرضي للمريض ثم يوصف له الدواء".
ويؤكد على ذلك الطبيب نائل العدوان، مدير المركز الوطني للصحة النفسية في الأردن، بأن الطبيب في العيادات الحكومية يحتاج من 15- 20 دقيقة لفتح ملف طبي للمريض وأخذ تاريخ مرضي حالي وسابق، وتاريخ عائلي، ووصف للاعراض التي يشعر بها، ليتمكن من وصف له دواءا مناسباً.
بعد جمع الأدلة، وتوثيق شهادات المرضى، قررنا الذهاب للمسؤول عن المركز الوطني للصحة النفسية في الأردن، لمواجهته بكافة الأدلة لأخذ حقه في الرد، ولكنه انسحب التصوير، وقال لنا أنه ليس المخول بالحديث عن تأخر المواعيد في مستشفى الزرقاء الحكومي وعن اجراءات تحديد المواعيد، أما بخصوص تشخيص الأطباء فقد أرجعه إلى الطبيب الذي قام بالكشف عن الحاله، وأنه هو صاحب القرار أن كانت تحتاج أم لا.
المركز الوطني لحقوق الانسان في تقريره العاشر، طالب الحكومة باعتبار الصحة النفسية اساسا من خدمات الرعاية الصحية، و بالاستناد للاعلان العالمي لحقوق الانسان 25/1، والمواثيق الدولية، حث على زيادة عدد المراكز المعنية بالصحة النفسية لتغطي أقاليم المملكة، وتشديد الرقابة على بيع الحبوب والأدوية المخدرة، ووضع آليات تفتيش ورقابة مناسبة لضمان احترام حقوق الإنسان في جميع مرافق الصحة النفسية، كذلك زيادة لكوادر البشرية المؤهلة للتعامل مع هذه الفئة من المجتمع.
ما الفارق بين الطبيب النفسي المعالج السلوكي؟
الطبيب النفسي هو الطبيب المعني بتشخيص المرضى الذين يعانون من اضطرابات أو أمراض نفسية مزمنة أو مؤقتة، ووصف أدوية مخصصة لعلاج هذه الحالة، وإن لم تكن الحالة المرضية بحاجة لدواء فيقوم بتحويلها إلى المعالج السلوكي، الذي يقوم بتنظيم وتطوير سلوكيات الفرد، والعمل على حل مشكلاته سلوكياً دون الحاجة لاستخدام الدواء.
وهذا ما شدد عليه المراجع "محمد" عقب توقفه عن العلاج النفسي، وتوجهه لمعالج سلوكي قام بشرح ما يعانيه من اضطرابات، وبدأ العلاج سلوكياً دون الحاجة لاستخدام الدواء.
" لما راجعت المعالجة السلوكية حكتلي ليش وصفولك دوا.. انت مش بحاجة دوا وحالتك كان ممكن تنحل
سلوكياً، وفعلاً انا اتحسنت كتير بعد ما راجعت المعالجة وحسيت بفرق".
الجمعية الاردنية لاخصائي علم النفس العيادي تسعى، لادخال منظومة المعالج المعرفي والسلوكي بشكل أوسع داخل منظومة علاج الطب النفسي في وزارة الصحة لتعميمها لتشمل العيادات كافة. حيث يشكل عدد الأطباء الحاصلين على شهادة ماجستير ودكتوراة في العلاج الاكلينكي السلوكي 35 طبيباً.
أما عدد الاطباء النفسيين في الأردن، بنحو 110 أطباء، 75 منهم في القطاع الخاص، والباقي يعملون تحت مظلة وزارة الصحة الأردنية، ما يجعل الأردن، من أقل البلدان مقارنة بالبلاد المجاورة، في عدد الاطباء النفسيين، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية. وهذا ما يجعل العلاج النفسي من الأمراض المترفة التي تحمّل الفرد المصاب أكثر من طاقته.
أهم المشكلات التي يتعرض لها بعض المرضى في العيادات الحكومية:
- عدم كفاية الوقت لتشخيص ومراجعة المرضى.
- لا يستمر نفس الطبيب في معالجة الحالة في بعض الحالات.
- المواعيد في بعض العيادات بعيدة جداً.
- الاعتماد على الأدوية وعدم تحويل المريض إلى المعالج السلوكي إن لم يكن بحاجة الدواء.
- الطبيب في بعض الأحيان لا يخبر المريض عن الآثار الجانبية للدواء الموصوف له.
- وصف أدوية للمراجع دون التاكد من مدى حاجته لها حتى لو رفض العلاج بالأدوية.
من فخ العيادات إلى مصيدة المجتمع:
لا تتوقف مشكلة هؤلاء المرضى عند بعض الانتهاكات التي يتعرضون لها في عيادات الطب النفسي الحكومية، بل تتعداها، الوصمة الاجتماعية التي تلاحقهم بين عائلاتهم، فهم يصنفون على أنهم مجانين والمجتمع يتجنبهم، و قد يخسرون عملهم، ومكانتهم الاجتماعية، وحتى أسرهم!
في حين يقال بأن الالم يجمع ايضاً!
فقرروا أن يجتمعوا ليساندوا بعضهم البعض، واجتمعوا في جمعية "خطوتنا لدعم الاشخاص ذوي الاعاقة النفسية" خلقوا لانفسهم مساحتهم الخاصة، ونأوا عما يحدث في أروقة المجتمعات التي رفضتهم لأنهم فقط يعانون من مشكلة نفسية قد يتعرض أي منا لإحداها!
هربوا من الفخ ليقعوا في المصيدة.. هذه رحلة من يبحثون عن الخلاص الأخير!
* جميع اسماء المرضى الواردة في التحقيق هي أسماء مستعارة، وجميع القصص المروية هي قصصهم الحقيقية من خلال تجربتهم.