الشاب العشريني يحيى (اسم مستعار) أرادَ أن يعيش حياة رغيدة في بحثه عن فرص جديدة حينما قررَ الهجرة إلى أمريكا بطريقة غير شرعية. حاله كحال العشرات من الشبان الأردنيين الذين سلكوا ويسعون لسلوك دروباً محفوفة بالمخاطر؛ منها الوقوع في حبائل "عصابات" مكسيكية خلال بحثهم عن الأمل.
اقرأ أيضاً : تقرير يكشف تفاصيل صادمة حول نسبة المدخنين في الأردن
"رؤيا" أجرت تحقيقا معمقاً حول "تهريب" شبان أردنيين إلى الولايات المتحدة الأمريكية مروراً بعدة بلدان بطريقة غير شرعية، واستطاعت اختراق أحد "المهربين" المشرفين على عمليات تهريب، إضافة إلى شبان وصلوا إلى أمريكا.
"كانت رحلة طويلة وشاقة على مدى 41 يوماً (18-2 إلى 1/4/2024) بدأت في لبنان وبعدها المملكة المتحدة (لندن) وصولا إلى هولندا، ومن ثم أكملت الرحلة عبر الطائرة إلى بنما"، وفق يحيى.
ويقتصر الشق الأول بالسفر جوا إلى عواصم أوروبية بعد الخروج القانوني من الأردن، فيما تكون المرحلة الثانية برا عبر عدد من البلدان.
اقرأ أيضاً : موعد العطلة الصيفية وبدء امتحانات التوجيهي 2024 في الأردن
يحيى مضى في المرحلة الأولى من هجرته منفردا دون أن يتعاون مع جهات خارجية إلى حين وصوله بنما، حيث التقى هناك "أفراداً آخرين" من الأردن. "وبعد ذلك بدأت رحلتنا البرية في مركبات وحافلات مروراً بالهندوراس وبعدها غواتيمالا وأخيراً إلى المكسيك"، حسبما يشرح يحيى.
وفق معلومات حصلت عليها "رؤيا"، فإن عددا من المهاجرين سلكوا طريقهم بمفردهم - على غرار يحيى - دون الاستعانة بـ"مهربين" من الأردن.
وحجز الشبّان تذاكر سفر إلى عدد من البلدان قبل الوصول إلى المكسيك بالتنسيق مع "عصابات مكسيكية أوصلتهم إلى الحدود مع أمريكا".
وتقدر المسافة برا من بنما إلى الحدود الأمريكية بـ 5,920 كم؛ تستغرق 78 ساعة دون توقف.
في حديثه عبر تطبيق "الواتس أب"، يشرح يحيى لـ" رؤيا" كيف عرف عن هذه الرحلة من أصدقاء له سبقوه إلى هناك: "وجدت 5 شباب أردنيين في بنما ومن ثم ازداد عددنا حتى أصبحنا 24 شاباً عدا عن أردنيين آخرين كانوا في المكان رفقة جهات أخرى".
لا يوجد أرقام لعدد الأردنيين الذين وصلوا إلى أمريكا عبر هذه الطريقة. إلا أن يحيى يفيد بأنه شعر نفسه بالأردن عندما وصل المكسيك: "بتحس حالك بالأردن قد ما في شباب أردنيين هناك".
اقرأ أيضاً : خبراء يوضحون عبر "رؤيا" المقصود بشهادة "المواصفات الأوروبية" للمركبات الكهربائية
أحد المقيمين في أمريكا منذ عامين، أبلغ "رؤيا" عبر تطبيق "الواتس آب" أيضا أن الولاية التي يقطنها استقبلت 200 شاب بطريقة "غير شرعية" خلال بضعة شهور؛ ما يؤشر إلى حجم ظاهرة مخاطرة الشباب في مطاردة أحلام غير مضمونة التحقق.
وتلعب عوامل طاردة دورا بارزا في تشجيع الشبان على الهجرة غير الشرعية، في بلد وصلت نسبة البطالة فيه إلى 21.4 % خلال الربع الأخير من 2023، بحسب دائرة الإحصاءات العامة.
ويقدر معدل البطالة بين الذكور بـ 18.9 %، مقابل 29.8 % للإناث.
ووفق يحيى، فإن هدفه الأول من الهجرة إلى أمريكا يتمثل في زيادة دخله، مع الإشارة إلى أنه كان يتلقى 1,600 دينار شهرياً في الأردن، حسب قوله.
وتتفاوت المقاصد بين زيادة الدخل والبحث عن فرص عمل في الولايات المتحدة، لا سيما في ظل شح فرص العمل في الأردن وانخفاض المدخول المادي الشهري المتأتي من الوظائف حال توفرها.
وتوصلت "رؤيا" في تحقيقها إلى أن المهاجرين بطريقة غير شرعية يغادرون المملكة عبر الطرق القانونية بتأشيرات معتمدة.
يحيى يشرح بأن مسار الهجرة يبدأ بحجز تذاكر سفر سياحيِة (ذهاب وعودة) إلى دول العبور. ويقول:"كل البلدان دخلناها بطريقة قانونية باستثناء نيكاراغوا والمكسيك التي عبرناها تهريباً".
ويقول: "في 18/2/2024 سافرت إلى لبنان وبعدها بريطانيا ثم هولندا.
وكل تلك البلدان أقمت بها أياما معدودة في فنادق". وخلف الأطلسي، بدأت الرحلة البرية "من بنما في حافلات ومركبات وكذلك الأمر عبر نيكاراغوا وهندوراس والمكسيك"، حسبما يضيف. ولم يقطع يحيى أي مسافة مشيا على الأقدام.
يحيى استبعد التعرض للتوقيف في حال اصطدام مهاجرين بسلطات تلك البلاد. "حتى في حال ضبطك في المكسيك أو الهندوراس فإن السلطات تمنحك عدة أيام لتسوية أمورك وإِعادتك من حيث أتيت دون سجنك"، حسبما ينقل عن سابقيه من المهاجرين.
يحيى ورفاقه في السفر لم يقضوا "سوى يوم واحد في نيكاراغوا" التي دخلوها وخرجوا منها "عبر التهريب".
معد التحقيق تواصل مع "مهرب" مبدياً رغبته بالهجرة؛ فكان جوابه أن "العملية قانونية في معظم المحطات وصولاً إلى الهندوراس".
ويشرح "المهرب": "نوفر رحلات من خلال الحجوزات الرسمية من تذاكر سفر وفنادق عبر عدة دول وصولاً إلى تسليم المهاجرين لعصابات بالتنسيق معها".
الرحلة تبدأ "من بريطانيا ومن ثم كولومبيا وبعدها بنما يليها نيكاراغوا بطريقة قانونية تتضمن حجز تذاكر وفنادق. وبعد ذلك نسلم المهاجر إلى مهربين مطلعين على موعد رحلة طائرته"، حسبما يشرح منظّم الرحلات الذي قصده معد التحقيق.
ويضيف: ثم "يكمل المهاجر الرحلة عبر الهندوراس وغواتيمالا والمكسيك برفقة مهربين، بعد أن نكون اضفناه إلى جروبات خاصة بنا لنتابع معهم سير الرحلة".
طريق الوصول إلى "المهرب" لم يكن سهلا أمام معد التحقيق؛ إذ اضطر إلى نيل ثقة عدد من المصادر المتسلسلة، عمل بعضها على حجب هوية "المهرب".
في البدء، تواصل معد التحقيق مع أحد الأفراد عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن ادعى الأخير معرفته بأحد المشرفين على عملية تهريب شبان.
وبعد نحو أسبوع من المحادثات المتقطعة معه، حصل معد التحقيق على رقم أحد المشرفين على عملية "التهريب". هذا الأخير زوّد معد التحقيق برقم "المهرب" بعد تردّد وقال له:"تواصل مع هذا الرقم واحكيله من طرف…".
"المهرب" الذي تواصلت معه" رؤيا" يقول إن "الرحلة تستغرق بين 14 و 18 يوماً، يقضي المهاجر نصفها تقريبا في المكسيك".
وهناك "يتنقّل المهاجر عبر محطات مختلفة، ومن ثم يستقل طائرة داخلية إلى مدينة تيخوانا الحدودية مع أمريكا، لعبور الحدود الأمريكية"
"المهرب" حاول إضفاء طابع الاطمئنان خلال حديثه مع معد التحقيق، وادّعى أن الطريق آمنة أمام المهاجرين وصولاً إلى أمريكا.
إلا أن يحيى يكشف في تسجيلاته الصوتية -من أمريكا- عن مخاطر في دول أمريكا اللاتينية.
"أسوأ تجربة في العالم، لو كنتُ أعلم أنني سأعاني خلال الطريق بهذه الصورة لما غادرت الأردن، ما عشناه يشبه الأفلام"، يستذكر يحيى بحزن.
ويشير إلى تعرضه مع أفراد من مجموعته "للخطف مرتين بيد عصابات مكسيكية، مدججة بالأسلحة، أخذت منا كل ما حملناه من مال وهواتف، وأعطونا هواتف قديمة لنستخدمها قبل أن يطلقوا سراحنا".
ثم يردف: "كل من يقول أن الرحلة آمنة فهو كاذب، الشيء الوحيد المضمون هو البقاء على قيد الحياة وأي شيء غير ذلك فالشخص معرض له".
من بين اللحظات العصيبة "نومنا داخل بيوت عصابات مكسيكية"، حسبما يستذكر يحيى ليلة مرعبة عاشها "مع 24 شخصاً في غرفة واحدة، عدا عن درجات حرارة مرتفعة وطعام سيئ". إنها "مشقة لا تنتهي"، يتابع بتنهد.
يشارك أفراد في الشرطة المكسيكية في مسارات تهريب وكذلك الضغط على المهاجرين غير الشرعيين، حسبما يقول المهاجر الشاب بالاستناد إلى تجربة شخصية: "الأمر لا يقتصر على العصابات بل حتى إن أفراداً في الشرطة المكسيكية أخطر منهم، لقد أخذوا من كل شخص ألقوا القبض عليه أكثر من 200 دولار مقابل تركنا وشأننا".
من جانبه يروّج "المهرب" بأن "الطريق آمنة نسبياً" مستدركاً مع ذلك "باحتمال تعرض مهاجرين في آخر أيام الرحلات لصعوبات في المكسيك نظراً للطقس الحار ونوعية الطعام والفنادق المتواضعة التي يقيمون بها".
وتقدّر مدة إقامة "المهاجر" في المكسيك "بنحو 8 أيام".
رحلة يحيى لم تكُ الأخطر أو الأَطول. إذ تعرض "23 شاباً أردنيا سلكوا ذات الطريق لمخاطر أكبر خلال هجرتهم غير الشرعية". وفوق ذلك "أعادتهم السلطات البنمية إلى تركيا لعدم إبراز وثيقة مطعوم الحمى الصفراء".
واضطروا إثر ذلك إلى حجز تذاكر سفر جديدة ودفع 3300 دولار إضافية عن كل شخص إلى أن "استطعنا الدخول أخيراً" مطلع نيسان/ابريل، حسب سردية يحيى الذي رافق تلك المجموعة.
ويتهم يحيى من يصفهم بـ"مهربين" أردنيين بـ"النصب والاحتيال": "هم الأسوأ. نصبوا علينا وتورطنا بسببهم مع عصابات مكسيكية". ويشير إلى أن "شابا أردنيا لا يزال عالقا في المكسيك منذ أكثر من 50 يوماً، بعد أن أخذت منه عصابات جواز سفره وسائر أوراقه الثبوتية"، وفق قوله.
مع ذلك، ينقل يحيى عن مصادر في أمريكا، تأكيدها "وصول شبان آخرين خلال 15 يوماً إلى هناك".
وتشترط دول في أمريكا اللاتينية - مثل بنما والهندوراس وكوستاريكا ونيكاراغوا وكولومبيا- إبراز وثيقة تلقي "مطعوم الحمى الصفراء"، حسب بيانات منظمة الصحة العالمية التي اطلعت عليها "رؤيا".
"المهرب" الذي عرض خدماته على معد التحقيق يؤكد له تأمين "وثيقة المطعوم للراغب بالهجرة فور مغادرته مطار الملكة علياء الدولي".
وتختلف كلف رحلات الهجرة غير الشرعية إلى أمريكا، بحسب رصد معد التحقيق، بين 6 - 16 ألف دولار؛ طبقا لعدد الأيام وتصنيفات الفنادق وأجور النقل البري على امتداد الرحلة.
ويشرح "المهرب" لـ"رؤيا": "لدي رحلتين للمهاجرين، واحدة بكلفة 8500 دولار والأخرى 9000 دولار". وهناك رحلات مسعّرة ب 6000 دولار.
الرحلات التي ينظمها "المهرب" تشمل "إيصال المهاجر إلى الأراضي الأمريكية وتتكفل بحجوزات السفر وسائل النقل باستثناء المصروف الشخصي للمهاجر من طعام ودخان وغيره وهي في حدود 500 دينار (700 دولار)"، حسبما يقول.
وحول آلية الدفع، يوضح "المهرب" أنه يحصل على "نصف المبلغ قبل السفر والنصف الآخر عند وصول المهاجر إلى المكسيك". وهو يتلقى الأموال كاش من خلال شخص يحدّده المهاجر قبل بدء العملية ويستلم النصف الثاني بعد وصول المهاجر إلى المكسيك"، حيث تنتهي مسؤولية المهرب فور وصول "المهاجر" إلى الحدود الأمريكية-المكسيكية.
يتيح ميسّرو الهجرة رحلتين أسبوعياً للباحثين عن أمل خلف الأطلسي.
وبعد دخول أمريكا يحصل المهاجر على إقامة لجوء إنساني لمدة 8 سنوات، يقول المهرب. وفي حال وجود قريب أو شخص يعرفه المهاجر في أمريكا، فإن السلطات هناك "ترسله إليه وتمنحه تصريح للعمل بعد ثلاثة شهور كحد أقصى".
من جانبه يقول يحيى: "كلفتني الرحلة كاملة نحو 16 ألف دولار أمريكي منها أكثر من 3 آلاف دولار ثمنا للتذاكر". وبعد عبوره الحدود الأمريكية "أستقبلَتنا سلطات الهجرة الأمريكية ومنحتنا لجوء إنساني لمدة ثلاثة أشهر".
ويضيف: "الشبان الـ23 الذين كانوا في مجموعتي وصلوا إلى أمريكا، ورغم عدم اتقانهم للغة الإنجليزية إلا أنهم يعملون جميعا في وظائف ممتازة، والحياة هنا سهلة".
بعيدا عن المخاطر، يراهن أردنيون على قرعة عشوائية سنوية تعلنها الإدارة الأمريكية ضمن برنامج "اللوتري"، الذي يمنح الفائزين فيه بامتيازات المواطن الأمريكي. ويمنح هذا البرنامج 55 ألف بطاقة خضراء (جرين كارد) عشوائياً في قرعة سنوية منذ 1994.
وبحسب أرقام وزارة الخارجية الأمريكية، يفوز بين 1000 و1200 أردني سنويا ببطاقات خضراء.
مغامرة أردنيين في "رحلة الشقاء" بحثاً عن حياة أفضل، ومتاجرة مهربين برغبات الشباب على ظهر الأمل هذا الخيار الصعب والخطير.
ورغم أن الشبان يعلمون مسبقاً مدى الخطر المحدق بهم، وتكلفة الهجرة غير الشرعية التي ستسلبهم دفئ العائلة وستذيقهم مرارة الغربة إلا أنهم أقدموا ولا زالوا على سلوك هذا الطرقات الوعرة؛ بعد أن نهش الفقر أحلامهم، ووأدت البطالة أملهم بغد أفضل.