لا يكاد يخلو حي أو حارة في تونس من عائلات تضم بين أفرادها كلباً أو قطاً يتقاسم معهم تفاصيل الحياة. ظاهرة ازدادت منذ سنوات بسبب ارتفاع التوتر النفسي لدى التونسيين بعد الثورة، وعرفت ذروتها بعد جائحة كورونا التي قلصت من علاقات البشر المباشرة، وجعلتهم يبحثون عن حلول بديلة لضمان الاستقرار العاطفي.
الطاقة الإيجابية
زمردة الدلهومي صحافية وأم لفتاتين تعيش في العاصمة تونس، ورثت هواية حب الكلاب والقطط من أمها، تقول "عندما انتقلت إلى بيتي الجديد وهو عبارة عن فيلا كبيرة، قررت تربية الكلاب لسببين، أولهما تأمين الحماية والمرافقة، وأيضاً لتعلقي بالحيوانات"، وتواصل قائلة "البداية كانت بعد وفاة زوجي حين قام أحد أصدقاء العائلة بجلب كلب لابنتي الصغرى التي تأثرت بوفاة والدها"، مضيفة "كانت هدية قيمة وممتازة لتساعد على تخطي لينا الصغيرة الحالة النفسية المتأزمة التي مرت بها".
اقرأ أيضاً : أطفال في قطاع غزة ضحية الصدمات النفسية جراء الحرب: "خائفون من الموت"
وتتابع زمردة التي تتحدث عن كلابها بحب وشغف كبيرين، وهي التي تتقن أسلوب التعامل معها، أنها منذ خمس سنوات توطدت علاقتها بالحيوانات خصوصاً الكلاب والقطط، التي تعتبر أنها تجلب الطاقة الإيجابية وتحسن من نفسيتها بشكل كبير، ربما أكثر حتى من رفقة الأشخاص.
كما عرفت تجارة الحيوانات، لا سيما الكلاب رواجاً كبيراً بفضل إقبال التونسيين على تربيتها، فتحول تعلق سمير بالكلاب مهنة تجلب له المال، وأصبح هذا الشغف مشروع حياته. سمير الذي يعمل أيضاً موظفاً في إحدى المؤسسات العمومية، يقول إنه فكر في هذا المشروع منذ سنة تقريباً، عندما لاحظ ازدياد تعلق البعض بتربية الكلاب، وخصوصاً العائلات التي لديها أطفال، مؤكداً أنه يبيع أسبوعياً بين أربعة وخمسة كلاب من الأجناس الباهظة الثمن، ويلفت إلى أن زبائنه من مختلف الفئات الاجتماعية والعمرية ما جعل تجارته مربحة.
خصص سمير قطعة أرض قريبة من منزله في منطقة ريفية في العاصمة تونس لتربية الكلاب، ويقول إنه نجح في عمله لأنه يحب الحيوانات الأليفة وخصوصاً الكلاب التي يعتبرها ملجأه الوحيد لتحسين مزاجه، لهذا أراد بيع الكلاب التي يربيها بنفسه ليشجع الناس على مرافقتها وجعلها فرداً من العائلة.
الكلاب كسلاح
ولمعرفة الأسباب النفسية التي جعلت التونسيين يقبلون على تربية الكلاب والقطط، يقول المستشار النفسي غيث السويسي إن "تربية الحيوانات تختلف حسب المحيط الاجتماعي الذي ننتمي إليه، مثلاً في الأحياء الشعبية التي تكثر فيها الجريمة، يعتمد البعض على الكلاب كسلاح ولإظهار القوة أكثر منه للمرافقة"، ويواصل "لكن يبقى جعل الكلب كمرافق الظاهرة الأكثر انتشاراً خصوصاً بين النساء"، مفسراً ذلك بأن مرافقة الكلاب والقطط تشعرهن بالأمان وتعويض الأشياء المفقودة لديهن"، فالكلب وفيّ لا يضر بصاحبه ولا يخونه ويبادله الحنان والعطف. ويشعر البعض أن ثقتهم بالكلاب أكبر بكثير من ثقتهم ببعض الأشخاص حتى القريبين".وفي سياق متصل، يفيد الاستشاري النفسي بأنه "في العادة من يختار تربية الحيوانات ومرافقتها، هم من كانت لهم تجارب سيئة مع من تعلقوا بهم من المحيطين بهم، ما أفقدهم الأمان والثقة، وهؤلاء مقتنعون بأن الحيوان سيكون لهم أفضل صديق".
إضافة إلى ذلك، يرى السويسي أن "الكلب مثلاً يعطينا شيئاً من الحماية والأمان أو العاطفة المفقودة، فهذه العلاقة تملأ فينا الفراغات النفسية التي نشعر بها بين الحين والآخر".
اقرأ أيضاً : هل تعاني من الصداع النصفي؟.. إليك الحل
فراغات نفسية وعاطفية
وبخصوص الحجر الصحي الذي عشناه، يقول السويسي، إن له أثراً مباشراً في ارتفاع هذه الظاهرة، "بما أن علاقاتنا الاجتماعية الخارجية انقطعت في وقت ما، أو تراجعت وأصبحت غالبية العلاقات افتراضية، فحتى وسط العائلة نفسها أصبح الأفراد غير قادرين على التعامل بشكل مباشر كما كانوا قبل الوباء، بالتالي لجأ البعض إلى تربية الحيوانات الأليفة للتعويض عن هذا النقص العاطفي الذي كانوا يستمدونه من العائلة والأصدقاء".
ويفيد بأن اليابان اعتمدت أسلوب تربية الحيوانات كعلاج للتخفيف من القلق والتوتر النفسيين، لا سيما في مراكز العمل التي يرتفع فيها ضغط الشغل، فيجلبون لهم القطط إلى داخل المؤسسات كنوع من الترفيه، ولتحريك الجانب العاطفي لديهم، كي لا يغلب الجانب العملي على علاقتهم ببعضهم".
"كورونا تركت أثراً نفسياً وخلقت لدينا فراغاً عاطفياً، فوجد البعض ضالتهم في مرافقة القطط والكلاب، خصوصاً أن أبسط الأنشطة اليومية أصبحت غير متاحة بسبب الخوف من العدوى، بحسب الاستشاري النفسي.
الفشل في تكوين علاقات طبيعية
ويضيف السويسي أن تربية الحيوانات هي طريقة أو وسيلة للعلاج النفسي وتساعد على تخفيف التوتر والقلق.
من جانب آخر يقول، إن "التعلق بالحيوانات يصبح مرضياً عندما يفشل الشخص في تكوين علاقات طبيعية مع باقي الأشخاص، ويصبح الحيوان محور حياته واهتماماته".
وقبل سنة، كشفت دراسة أعدها البارومتر العربي، أن التونسيين يتصدرون نسب الشعور بالتوتر النفسي على الصعيد العربي بنسبة 53 في المئة.
أما على مستوى الشعور بالاكتئاب فيأتي التونسيون بنسبة 40 في المئة، في المرتبة الثانية بعد العراقيين، 43 في المئة ، فيما يأتي في المراتب الأخيرة كل من المغاربة والجزائريين 20 في المئة، ثم السودانيين 15 في المئة.
وحول أسباب هذه النسب المرتفعة في حالات التوتر النفسي والقلق في صفوف التونسيين، على الرغم من أنهم لم يعانوا ويلات الحروب على غرار بعض الدول العربية، رجحت هذه الدراسة بأن يكون سبب ذلك التغيرات التي تعيشها تونس، والتي رافقت الانتقال السياسي الصعب اقتصادياً واجتماعياً منذ الثورة إلى اليوم، خصوصاً أن تاريخ البلاد عرف مساراً يمتاز بالأمان.