يجثو السوري وليد العوض وزميله الأردني طه الخزاعلة على ركبتيهما منهمكين في استعادة رونق أرضية من فسيفساء بيزنطية، في كنيسة من القرن السابع في رحاب في شمال الأردن.
ويعمل الرجلان ضمن برنامج لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونسكو" قدّم منذ انطلاقه عام 2019 نحو 300 فرصة عمل بدعم من الحكومة الألمانية ويهدف الى المساهمة في محاربة الفقر والبطالة مع حفظ التراث.
ويعمل العوض (45 عاما) الذي خسر بيته وكل ما يملك في درعا في جنوب سوريا عام 2012 بعد فراره من الحرب في بلده الى الأردن، وزميله الخزاعلة (32 عاما) الذي يقطن رحاب في محافظة المفرق (نحو 70 كلم شمال عمان) بدقة على ترميم الأرضية في كنيسة يوحنا المعمدان التي بنيت عام 619 ميلادي.
ويطرق الاثنان قطع حجارة صغيرة بألوان بينها البني والأسود، بمطرقة صغيرة وبدقة متناهية ويضعانها على أرضية الفسيفساء ثم ينظفان حولها بعناية بمشرط وقطعة من الإسفنج.
وتضم الفسيفساء أشكالا هندسية وأخرى تمثل نباتات ونهري دجلة والفرات، كما توجد كتابة باليونانية فيها "أرضية الكنيسة رصفت وأهديت الى القديس يوحنا المعمدان على نفقة المال العام المقدّم من الأهالي".
ويعمل العوض والخزاعلة مع أردنيين وسوريين آخرين في ترميم فسيفساء المجمع الكنسي الذي يضم أيضا كنيسة الأسقفين بروكوبيوس وسيرجيوس المبنية عام 590 ميلادي.
ويشرف الخبير الإيطالي فرانكو شوريللي (54 عاما) على ترميم الموقع منذ تشرين الأول/أكتوبر 2020 على أن يكتمل العمل نهاية أيار/مايو المقبل.
ويقول شوريللي الذي يتقن العربية واللهجة الأردنية لإقامته في الأردن منذ عام 1994، ودرّب حتى اليوم أكثر من 500 شخص، إن فسيفساء رحاب "كنز" يحتاج إلى مزيد من الاهتمام.
ويضيف أن الأردن هو "الدولة الأولى في حوض البحر المتوسط وفي العالم كله من ناحية عدد أرضيات الفسيفساء خصوصا البيزنطية".
ويوضح أن "الفسيفساء هنا بسيطة وأسلوبها خاص بالمنطقة ومختلفة عمّا نراه في الخارج. يجب أن نعرّف العالم عليها".
وأنجز فريق العمل ذاته الشهر الماضي ترميم فسيفساء كنيسة القديسة مريم التي بنيت عام 543 ميلادي في رحاب أيضا.
اقرأ أيضاً : عاملون في القطاع السياحي يطالبون بمصفوفة حكومية خاصة - فيديو
وتقول كبيرة مسؤولي المشروع في اليونسكو جورجيا شيزارو "المشروع بالغ الأهمية لأنه يمثّل تغييرا في نهج حماية التراث".
وتضيف "أنه يأخذ بالاعتبار وضع السكان قرب المواقع الأثرية، والفكرة هي تدريبهم على حماية تراثهم".
وتضم قرية رحاب 32 كنيسة أثرية، خمس منها فقط تظهر بقاياها للعيان، بينها كنيسة القديس جاورجيوس المبنية عام 230 ميلادي والتي تعد من أقدم كنائس العالم. بينما تغطي الرمال الأخرى. وهُجرت تلك الكنائس التي اكتشف معظمها بين عامي 1999 و2002، تدريجيا منذ العصر الأموي وحتى القرن التاسع.
ويقطن المفرق نحو 550 ألف شخص بينهم 165 ألف سوري، ثمانون ألفا منهم في مخيم الزعتري.
وتقدم نحو 600 شخص للعمل في المشروع، اختير نصفهم تقريبا. ويشكل الأردنيون 70 في المئة من العاملين في البرنامج والسوريون 30 في المئة. فيما 20 في المئة من العاملين فيه إناث.
وتقول مسؤولة المشاريع في قسم الثقافة في "يونسكو" دانيا ديراني لفرانس برس إن للمشروع "هدفين أساسيين هما أولا حفظ التراث (...) وثانيا توفير فرص عمل لأهل المنطقة".
ويتم اختيار الأشخاص وفق تقييم من ناحية عدد أفراد الأسرة ودخلها وحاجتها و"الأكثر حاجة هم الذين يحصلون على العمل".
وبحسب ديراني، تم تدريب هؤلاء وتثقيفهم ب"تاريخ الموقع والكنيسة والفسيفساء وأهمية العمل ثم آليات العمل وحفظ الفسيفساء والخلطات المستخدمة والترميم".
وتتراوح الأجور بين 12,5 دينارا (17,6 دولارا) يوميا و15 دينارا، إضافة الى وجبات الطعام والمواصلات.
ويفخر العوض بعمله ضمن مشروع "فرص العمل لصون التراث الثقافي في الأردن". ويقول لفرانس برس "هذه معالم تاريخية يجب الحفاظ عليها وصيانتها وترميمها، أنا سعيد وفخور بأنني جزء من هذا العمل".
ويضيف الرجل الأسمر الذي ارتدى زيا أزرق وكمامة سوداء "المشروع أنقذ وضعي المادي، إذ ليس هناك عمل"، مشيرا الى أن لديه ستة أطفال أصغرهم طفلة بعمر أربع سنوات وأكبرهم شاب بعمر 18 عاما.
ويتابع "نحن لاجئون والعائلة كبيرة ومصروفها كبير. إيجار البيت تقريبا 100 دينار (نحو 141 دولارا)". وهو يتقاضى من المشروع نحو 300 دينار (423 دولارا) شهريا.
ويقول الخزاعلة ذو الشعر الأسود الداكن والذي حصل على شهادة دبلوم عالي في فن وترميم الفسيفساء من معهد مادبا عام 2016، من جهته، إنه اكتسب "مهارات وخبرة أكبر".
ويضيف الرجل العازب الذي يقطن رحاب مع عائلته "لم تكن هناك فرص عمل والظروف صعبة جدا"، مشيرا الى أنه فرح بالعمل ضمن تخصصه.
وتوجد في الأردن مواقع عديدة تضمّ لوحات فسيفساء في مدن جرش وأم قيس وعجلون (شمال) ومادبا والبتراء (جنوب) وأم الرصاص (وسط).