داخل محلها الصغير الذي ألحق انفجار بيروت المروّع أضراراً به، تنكبّ كلوديت على خياطة تنورة على ماكينتها القديمة الطراز التي تمكنت من إنقاذها. رغم المأساة التي أصابت حيّها وحياتها، تعلم أن الاستسلام ليس خيارا إن أرادت مواصلة تأمين قوت عائلتها.
اقرأ أيضاً : ماذا نعرف عن انفجار لبنان؟
وتلملم الأحياء المجاورة لمرفأ بيروت جراحها مع حركة خجولة في أزقتها، بعد شهر من فاجعة أودت بحياة 191 شخصاً على الأقل وتسبّبت بإصابة أكثر من 6500 آخرين بجروح، عدا عن وجود سبعة مفقودين على الأقل، وفق تقديرات رسمية.
وأحيا رصد فريق بحث تشيلي متخصّص "نبضات قلب" تحت ركام مبنى في شارع مار مخايل المنكوب، آمالا بالعثور على شخص حي. وتنكب فرق الإنقاذ من يوم أمس على البحث بين أنقاض المبنى عما يشبه "المعجزة".
وتقول كلوديت (60 عاماً) من داخل محلها في شارع الجميزة المجاور لمار مخايل، لوكالة فرانس برس "تدمّر كل شيء هنا، لكنني قررت البدء من جديد، لأنه ليس لدي خيار آخر".
وتضيف "زوجي لا يعمل.. وابني طُرد من عمله بسبب الأزمة الاقتصادية. لديه ولدان وإيجار منزل وأنا مضطرة لمساعدته" في خضم أسوأ انهيار اقتصادي تشهده البلاد منذ العام الماضي حرم عشرات الآلاف من وظائفهم أو جزءاً من مداخيلهم.
وعاودت بعض المحال فتح أبوابها في الشارع الذي يعد بين الأكثر تضرراً جراء انفجار المرفأ المواجه. وتكفّلت منظمة غير حكومية باستبدال واجهة محل كلوديت المحطمة بأخرى جديدة، بينما تولّت هي كلفة إصلاح ماكينة الخياطة.
ومنذ الانفجار، يعمل أفراد منظمات ومتطوعون وعمال كخلية نحل في الأحياء التي لحقها الدمار. يحصون الأضرار ويوزعون المساعدات والمواد الغذائية التي تتدفق الى لبنان من دول عدة ويساعدون السكان على استبدال أبواب منازلهم ونوافذها.
"أخاف ألا يعودوا"
وتخشى كلوديت أن تكون قد خسرت زبائنها. وتقول "غالبيتهم كانوا يعيشون هنا في الشارع، ومعظمهم غادروا. أخشى ألا يعودوا".
على بعد أمتار من محلها، تفوح رائحة شطائر الصعتر المخبوزة في فرن أعاد فتح أبوابه بعد تأهيله من الصفر جراء أضرار كبيرة لحقت به.
ويقول مالك الفرن حكمت قاعي لفرانس برس "نحاول قدر المستطاع أن نستعيد الحياة لسبب واحد، وهو أنّه يبقى لدينا أمل بهذا البلد وبالمستقبل رغم كل شيء".
ويصف ما يقوم به بفعل "مقاومة".
وقدّر البنك الدولي قيمة الأضرار والخسائر الاقتصادية الناتجة عن الانفجار بأنها تتراوح بين 6,7 و8,1 مليارات دولار، بينما يحتاج لبنان بشكل عاجل إلى ما بين 605 و760 مليون دولار للنهوض مجدداً.
قبل الانفجار، كان شارع الجميزة المعروف بأبنيته ذات الطابع التراثي وبمقاهيه وحاناته، ينبض بالحياة وبزحمة لا تتوقف ليلاً نهاراً. واليوم، رغم رفع الركام من بعض نواحيه وإزالة أطنان الزجاج الذي تطاير في كل ناحية وصوب، لا يزال يفتقد حيويته المعهودة.
ولم تسلم "قهوة إيمان" التي تقع في زقاق متفرع عن الشارع الرئيسي، من الانفجار الذي ألحق أضراراً كبيرة بها طالت تجهيزات المطبخ الرئيسية.
ويوضح محسن الذي يتولى إدارة المقهى أن القيمين على المكان، وبعد اجراء أعمال تأهيل طفيفة، يكتفون حالياً بتقديم السندويشات، إذ هناك وجبات لا يقدرون على إعدادها بعد.
ويقول لفرانس برس "يسيّر أعمالنا اليوم المتطوعون والجمعيات"، مضيفاً "هم من يأتون إلينا لتناول الطعام".
"إنّها معركتنا"
في شارع مار مخايل، يقول شاب جلس مع أصدقاء في إحدى الحانات القليلة التي فتحت أبوابها لفرانس برس، "هذه طريقتنا في المقاومة، سنواصل.. الاحتفال بالحياة".
وشرّد الانفجار نحو 300 ألف من سكان بيروت بعد تضرر منازلهم أو دمارها وانقطاع الخدمات الأساسية عنها.
في حانة أخرى عُلقت على واجهتها صورة روان، وهي نادلة قضت في الانفجار وتصدّرت قصتها وسائل الاعلام بعدما بكتها عائلتها وصديقاتها، يعاود بعض الزبائن التردّد إلى المكان بعد فتح أبوابه وإصلاح الأضرار.
ويوضح مالك الحانة إيلي خوري لفرانس برس "لم نُعِد فتح أبوابنا من أجل جني المال، أعدنا فتحها لنظهر أن الحياة يجب أن تستمر، إنها رسالة حياة".
ويضيف "تعرضنا في تاريخنا لحرب وقصف وانفجارات. وفي كل مرة كنا ننهض من جديد وسنواصل فعل ذلك. إنّها معركتنا، وهي معركة وجود".