الثامن عشر، من شهر كانون الأول/ ديسمبر، من كل عام، يوم اعتمدت الأمم المتحدة، يوماً عالمياً للغة العربية.
ولم يكن اختيار هذا اليوم، وتخصيصه للاحتفال العالمي باللغة العربية، مصادفة، بل هو اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، عام 1973، لإدخال اللغة العربية إلى لغات المنظومة الأممية المعتمدة، إلى جانب الإنجليزية والصينية والإسبانية والفرنسية والروسية.
وستحتفل منظمة الأمم المتحدة، للتربية والعلم والثقافة، المعروفة اختصاراً باليونسكو، باليوم العالمي للغة العربية، في العاصمة الفرنسية باريس، بإقامة ثلاث موائد مستديرة مخصصة لبحث موضوع (اللغة العربية والذكاء الاصطناعي) يشارك فيها خبراء ولغويون وأكاديميون وفنانون ومثقفون، على أن ينقسم الموضوع الرئيس للاحتفال، إلى موضوعات ثلاثة، كما بينت المنظمة، وهي على التوالي: تأثير الذكاء الاصطناعي في صون اللغة العربية، وحوسبة اللغة العربية ورهان المستقبل المعرفي، ثم إطلاق تقرير إقليمي عن اللغة العربية بصفتها بوابة لاكتساب المعارف ونقلها.
وسيستضيف مقر المنظمة في فرنسا، حفلا موسيقيا، بهذه المناسبة، تحييه الفنانة الفلسطينية دلال أبو آمنة.
ووفق البيان الرسمي للمنظمة العالمية، فإن احتفال هذا العام باليوم العالمي للغة العربية، سيقام بالتعاون مع وفد المملكة العربية السعودية، لدى اليونسكو، وبالشراكة مع مؤسسة سلطان بن عبد العزيز آل سعود الخيرية.
من اللغات السامية وأُم اللغات
واللغة العربية، عميقة الجذور، وضاربة في التاريخ القديم، وثمة من ينسبها إلى اللغات السامية، من الباحثين، وثمة من يتعامل معها بصفتها أُم اللغات السامية، قاطبة، نظرا لما لحظه الباحثون اللغويون، من ارتباط ما بين العربية واللغات السامية، مع أفضلية أن تكون العربية الأقدم بين جميع هذه اللغات.
ولا زالت أصول العربية الفصحى عصية على عتاة الباحثين، مستشرقين وعرباً ومسلمين، لسعة مفرداتها وغزارتها التي تجاوزت الاثني عشر مليون كلمة، وكذلك لتعدد اللغات واللهجات والألسنة، فيها، وكذلك لندرة اللقى الأثرية التي يمكن أن توضح الأصل عميق الجذور المسافر في الزمن، لهذه اللغة التي يتكلمها، اليوم، قرابة نصف المليار من البشر، وقدمت للبشرية إرثا أدبيا لا مثيل له بين جميع اللغات، فالعربية هي اللغة المنفردة، على سائر اللغات، بحجم المؤلفات التي كتبت فيها، وعنها، حتى أصبحت المكتبة العربية اللغوية التقليدية، هي واحدة من أكبر المكتبات اللغوية، في تاريخ العالم.
حفظها القرآن الكريم
وجاءت صعوبة البحث في الأصل الفصيح للعربية، من غياب الأثر التاريخي المادي المتمثل باللُّقى، ولولا الإسلام والقرآن الكريم، لظلت العربية حبيسة اللسان متنقلة بين صدور الرجال، وحسب. من هنا، يرى الباحثون، من العرب والمسلمين والمستشرقين، أن دور القرآن الكريم في حفظ العربية ونشرها، كان الدور الأوحد، على الإطلاق، بدليل أن أول كتاب صدر عن النحو العربي، جاء بعد قرابة قرنين من هجرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهو كتاب (الكتاب) لسيبويه، عمرو بن عثمان بن قنبر، والمتوفى سنة 180 للهجرة.
وكذلك كان القاموس الأول للعربية والمعروف بكتاب العين، على يد الفراهيدي، الخليل بن أحمد، والمتوفى سنة 170 للهجرة. وما إن بدأ النحو على يد سيبويه، وولادة المعجمات على يد الفراهيدي، حتى توالت مصنفات العربية ما بين القرنين الثاني والثالث الهجريين، وأصبح التأليف بالعربية وعن العربية، سمة بارزة من سمات النخبة المثقفة، من العرب أو من العجم الذين وسّعت لهم الحياة العربية والإسلامية وكانوا جزءا من شخصيتها الحضارية والتاريخية، فتركوا لها أهم المصنفات، على حد سواء مع نظرائهم العرب.
نقلت العلوم إلى القارة الأوروبية
وساهم تنوّع الحياة العربية من قلب الجزيرة العربية إلى جنوبها وشمالها، إلى تنوع العربية نفسها التي صارت فيها (لغات) أو (ألسنة) قصد فيها اللغويون الأوائل، ما نعرفه الآن باللهجات، فيما العربية عربية الجميع، إلا أن الفصيح فيها كان يسمى اللغة العالية، والفصيح والعالي، هو ما كثر استعماله في ألسنة العرب ودار في أكثر لغاتهم، كما يقول السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، 849-911 للهجرة، في كتابه (المزهر في علوم اللغة وأنواعها).
ولم يقتصر دور العربية على إنتاج الأدب والتاريخ وكتب العلوم التي بدأت بالازدهار في بغداد والأندلس، لاحقاً، بل كان للعربية دور الوسيط الحافظ والضامن للفلسفات والعلوم الرياضية والفلكية القديمة، وهو ما أقرت الأمم المتحدة به، وهي في صدد شرح سبب الاحتفال بيوم عالمي للعربية، فقالت إن العربية ساعدت في نقل العلوم والمعارف والفلسفات اليونانية والرومانية إلى القارة الأوروبية، في عصر النهضة. وهو أمر صعب المنال على أي لغة، لتتنكّب هذا العبء الثقافي العالمي الهائل، وتكون فيه صلة الوصل والناقل الأمين، من حضارة إلى حضارة، كانت العربية الحضارة التي تتوسطهما، تاريخيا وثقافيا وأدبيا.
هذا أسوأ مراحلها
ويشار إلى أن التوسع الكبير الذي شهدته العربية تأليفا وتصنيفا وأدبا وشعراً، ما بين نهاية القرن الثاني الهجري، والقرن الرابع، انقلب ضموراً وبواراً وفقراً، مع بدء السيطرة العثمانية على المنطقة العربية، ما بين القرن الخامس عشر الميلادي، ونهايات القرن الثامن عشر، وهي الفترة التي تعتبر أكثر العصور فقراً وعوزاً في تاريخ الأدب العربي، حيث كانت غالبية فحول الشعراء العرب، إمّا قبل الاحتلال العثماني، أو بعد زواله، مع استثناءات هامة فرضها هزم العثمانيين والخروج من سلطتهم، كما فعل المصريون مع بدايات القرن الثامن عشر الميلادي على يد محمد علي.
وبرأي دارسي المرحلة العثمانية، فقد كانت عصر انحطاط للأدب العربي، بدأت ملامح التخلص منه، مع القرن الثامن عشر الميلادي وبروز مدارس أدبية عربية جديدة متأثرة بالرومنسية الغربية وبنزعة الإحياء العربي، في الأدب والشعر خاصة، ثم انتقلت التجربة العربية، من الإحياء إلى التجديد، ثم إلى الحداثة.