تحيي الأسرة الأردنية الواحدة الخميس، الرابع عشر من تشرين الثاني، بكل إجلال وإكبار وتقدير، الذكرى الـ 84 لميلاد جلالة المغفور له بإذن الله، الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، باني نهضة الأردن الحديث، وفق أسس راسخة ومتينة، جعلت من المملكة نموذجاً في الإنجاز والبناء والعطاء.
ويستذكر أبناء وبنات الوطن بهذه الذكرى الخالدة خلود الوطن، مسيرة الراحل الكبير عبر سبعة وأربعين عاماً في قيادة المملكة، خاضها الحسين إلى جانب أبناء شعبه الوفي لبناء الأردن الحديث وإعلاء شأنه، وخدمة مختلف قضايا الأمتين العربية والإسلامية، برؤية ثاقبة وحنكة مشهودة، وتفاني شعبه والتفافهم حوله، ما جعل الأردن مَحطّ إعجاب واحترام وتقدير على المستويين الإقليمي والدولي.
وبهذه المناسبة، يجدد الأردنيون العهد والولاء لوارث العرش الهاشمي، جلالة الملك عبدالله الثاني، وكلهم عزم وتصميم وإرادة على مواصلة مسيرة الخير والبناء، بكل ثقة وهمة عالية، لإعلاء بنيان الوطن وتعزيز مكانته وصون منجزاته.
ولد الملك الحسين في الرابع عشر من تشرين الثاني عام 1935 في عمان التي أحبها وأحبته واحتضنته أميراً وملكاً فوق أرضها ثلاثة وستين عاماَ، وتربى في كنف والديه طيب الله ثراهما جلالة الملك طلال وجلالة الملكة زين الشرف، وجده المغفور له بإذن الله جلالة الملك المؤسس عبدالله بن الحسين الذي استقى منه أنبل القيم الرفيعة والمبادئ العظيمة.
و"الحسين" هو الحفيد الأربعون للنبي محمد - صلّ الله عليه وسلم- وسليل أسرة عربية هاشمية امتدت تضحياتها عبر القرون، ونشرت رسالة الحق ودين الهدى، واستمدت من الإسلام الحنيف المثل العليا والمبادئ السامية وتعاليمه السمحة لما فيه خير البشرية جمعاء.
وأكمل الملك الحسين تعليمه الابتدائي في الكلية العلمية الإسلامية في عمان، ثم التحق بكلية فكتوريا في الإسكندرية، وفي العام 1951 التحق بكلية هارو بإنجلترا، ثم تلقى بعد ذلك تعليمه العسكري في الأكاديمية الملكية العسكرية في ساند هيرست في انجلترا وتخرج منها العام 1953.
وفي الحادي عشر من شهر آب العام 1952 نودي بـ "الحسين"، طيب الله ثراه، ملكاً للمملكة الأردنية الهاشمية وتسلم سلطاته الدستورية يوم الثاني من أيار العام 1953.
وللمغفور له الملك الحسين، خمسة أبناء وست بنات، هم جلالة الملك عبدالله الثاني، وأصحاب السمو الأمراء فيصل وعلي وحمزة وهاشم، والأميرات عالية وزين وعائشة وهيا وإيمان وراية.
تربى أبناء الحسين في كنفه، فاستقوا منه محبة الناس والتواضع لهم وحسن معاملتهم والأخلاق النبيلة المستندة إلى تقوى الله، عز وجل، وإلى تعاليم الدين الإسلامي الحنيف والخلق الهاشمي ومبادئ الثورة العربية الكبرى.
وحرص الراحل الكبير على أن يكون لكل من أبنائه، شأن في شؤون الحياة اليومية للمواطن بمشاركته أفراحه وآلامه، إذ قدم كل منهم وما يزال ما وسعه من العطاء، وعملوا مع أسرتهم الأردنية مندمجين فيها ومتعايشين معها.
وفي السادس والعشرين من كانون الثاني عام 1999، وجه "الحسين" رسالة إلى جلالة الملك عبد الله الثاني يوم اختاره ولياً لعهد المملكة، خاطبه فيها قائلا: "إنني لأتوسم فيك كل الخير وقد تتلمذت على يدي وعرفتَ أن الأردن العزيز وارث مبادئ الثورة العربية الكبرى ورسالتها العظيمة، وانه جزء لا يتجزأ من أمته العربية وأن الشعب الأردني لا بد وأن يكون كما كان على الدوام في طليعة أبناء أمته في الدفاع عن قضاياهم ومستقبل أجيالهم...".
وجاء في الرسالة "أن هذا الشعب العظيم قد قدم عبر العقود الماضية كل التضحيات الجليلة في سبيل هذه المبادئ والقيم النبيلة السامية، وانه تحمل في سبيل كل ذلك ما تنوء بحمله الجبال، وأن النشامى والنشميات من ابناء أسرتنا الأردنية الواحدة من شتى المنابت والأصول، ما توانوا يوماً عن أداء الواجب ولا خذلوا قيادتهم ولا أمتهم وأنهم كانوا على الدوام رفاق الدرب والمسيرة الأوفياء والمنتمين لوطنهم وأمتهم القادرين على مواجهة الصعاب والتحديات بعزائم لا تلين وبنفوس سمحة كريمة معطاءة..".
وأضاف جلالته في الرسالة " وأن من حقهم على قيادتهم أن تعمل لحاضرهم ومستقبلهم ولتحقيق نهضتهم الشاملة حتى تتسنى لهم الحياة الكريمة وتصان حقوقهم التي كفلها لهم الدستور وأن تبقى جباههم مرفوعة لا تنحني الا لله أو لتقبيل ثرى الوطن العزيز".
لقد آمن الراحل الكبير بأن الجندية شرف وواجب وانضباط، وتمثل إيمانه ذلك بحرصه على تشجيع نجله الأكبر جلالة الملك عبدالله الثاني على الانخراط في الحياة العسكرية، فيصحبه في جولاته إلى الألوية والوحدات العسكرية منذ كان طفلا فأنشأه جندياً عربيا هاشمياً، وتدرج في الخدمة العسكرية التي نال خلالها عدة أوسمة وشارات ملكية تقديراً من المغفور له بإذن الله جلالة الملك الحسين، لجلالته على جهوده المخلصة وتفانيه في العمل العسكري .
ومنذ تسلم الملك الحسين طيب الله ثراه سلطاته الدستورية، وهو يتطلع إلى خدمة الشعب الأردني ورفع مكانة الوطن وإعلاء شأنه، جاهداً في بناء الدولة الأردنية في ظل العديد من الظروف والتحديات الصعبة بسبب الأوضاع والأحداث المحيطة، إضافة إلى قيود المعاهدة الأردنية البريطانية ووجود القيادة الأجنبية في أجهزة الدولة، فبدأ بخطوات جريئة وشجاعة استهلها بتعريب قيادة الجيش العربي الأردني في الأول من آذار العام 1956 وتسليم قيادته للضباط الأردنيين الأكفياء، ومن ثم إلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية في آذار 1957.
كما أولى جلالته القوات المسلحة الاهتمام الخاص لتطويرها وتحديثها منذ البدء، لتكون قوات تتميز بالاحتراف والانضباطية حتى غدت قوات عالمية تُطلب للاشتراك بمهام حفظ السلام الدولية في مناطق النزاع في العالم.
وكان بناء الأردن الحديث وإرساء دعائم نهضته الشاملة في جميع المناحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعمرانية هاجس الملك الحسين، لذلك أولى جلالته جل اهتمامه لتحديث التشريعات وترسيخ الديمقراطية.
وشهدت المملكة في عهد جلالته -رحمه الله- حياة برلمانية مستمرة باستثناء سنوات قليلة أعقبت حرب حزيران العام 1967 واستمرت خلالها ممارسة الديمقراطية عن طريق إنشاء المجلس الوطني الاستشاري، حتى تهيأت الظروف العام 1989 لاستئناف الحياة البرلمانية بانتخابات أسفرت عن تشكيل مجلس النواب الحادي عشر بمشاركة شعبية واسعة من مختلف القطاعات وألوان الطيف السياسي.
وباستئناف الحياة البرلمانية كانت العودة إلى الحياة الحزبية وزيادة تفعيل مؤسسات المجتمع المدني كالنقابات المهنية والعمالية التي تسهم بشكل فاعل في تطوير المجتمع وتنشيط فعالياته.
وفي مجال حقوق الإنسان، عمل الراحل الكبير على صيانة هذه الحقوق حيث غدا الأردن نموذجاً يحتذى به على هذا الصعيد، كما حرص على إنشاء مركز دراسات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان للمزاوجة بين النظرية والتطبيق في مجال رعاية حقوق الإنسان.
وفي عهد جلالته، طيب الله ثراه، توسعت قاعدة التعليم الإلزامي، إذ انتشرت المدارس في جميع مدن المملكة وقراها وبواديها وأريافها، وأصبح الأردن في طليعة الدول العربية على صعيد ارتفاع نسبة المتعلمين ومكافحة الأمية، وتزامن ذلك مع إنشاء الجامعات وكليات المجتمع الحكومية والخاصة، حتى أضحى الأردن مقصداً لطلبة العلم والمعرفة، وشملت نهضة الأردن في عهد جلالته جميع المجالات الصحية والخدمات العامة والبنية التحتية والطرق والاتصالات والزراعة والصناعة.
وفي الشأن القومي، كان حضور جلالته في مختلف القمم العربية والعالمية حضوراً متميزاً، ويسجل لجلالته أنه أول قائد لبى أول نداء لعقد أول قمة عربية العام 1964، ويسجل للأردن عدم تخلفه عن حضور أي مؤتمر قمة عربي منذ ذلك الحين، ومشاركته في اجتماعات جامعة الدول العربية بالكامل، وفي اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات العربية على مختلف المستويات.
وواجه الأردن، بقيادة جلالته الحكيمة، التحديات التي أفرزتها نكبة العام 1948 ولجوء مئات الآلاف من الأشقاء الفلسطينيين إلى الأردن وحماية حدوده ضد أي اعتداءات إسرائيلية، فكان تعزيز الجيش وتسليحه بالأسلحة الحديثة وتدريبه ورفده بالشباب المؤهل وتنويع مصادر السلاح أولى الأولويات.
وناضل الحسين رحمه الله من اجل القضية الفلسطينية في زمن الحرب وفي زمن السلام، السلام العادل والشامل الذي ظل يدعو إليه طوال سني عمره وكان يراه السبيل الأوحد لفض النزاع في الشرق الأوسط.
وكان لجلالة الراحل الكبير بعد حرب عام 1967 الدور الأساسي في صياغة قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي دعا إسرائيل إلى الانسحاب من جميع الأراضي العربية التي احتلت عام 1967 مقابل السلام والأمن والاعتراف، وظل هذا القرار منطلق جميع مفاوضات السلام التي تلته.
وفي 26 حزيران عام 1967 كان جلالة الحسين طيب الله ثراه أول زعيم يخاطب العالم بعد حرب حزيران، يوم قال في الأمم المتحدة في نيويورك " لن أتحدث إليكم عن السلام فحسب، فالشرط المسبق لتحقيق السلام هو العدالة، وعندما نحقق العدالة سيتحقق السلام في الشرق الأوسط، لقد قيل الكثير من هذا المنبر عن السلا،م وكان هناك القليل مما قيل عن العدالة، وما يريده الأردن والعرب هو السلام مع العدالة".
وفي الحادي والعشرين من آذار العام 1968 خاض الجيش العربي الأردني، بقيادة الملك الحسين، معركة الكرامة، وتمكن من دحر القوات الإسرائيلية الغازية، وحقق الجيش العربي الأردني نصراً واضحاً بفضل قيادة جلالته وصمود الجنود الأردنيين، حيث وصفت تلك المعركة بأنها أعادت للأمة العربية كرامتها.
وفي مؤتمر القمة العربي الذي عقد في الرباط في المغرب عام 1974 وافق الملك الحسين - رحمه الله - مع القادة العرب على الإعلان الصادر عن القمة بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ونتيجة لذلك نقلت مسؤولية التفاوض على استعادة الأراضي الفلسطينية إلى منظمة التحرير الفلسطينية.
وقام جلالته في العام 1991 بدور رئيس في عقد مؤتمر مدريد للسلام من خلال توفير مظلة للفلسطينيين للتفاوض حول مستقبلهم من خلال وفد أردني فلسطيني مشترك، وبعد حوالي عامين وفي الثالث عشر من أيلول 1993 وقعت منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل إعلان مبادئ (أوسلو 1) حددتا فيه أطر التفاوض معا، ومهد ذلك الطريق أمام الأردن للسير في مسار التفاوض الخاص به مع إسرائيل وقد تم توقيع إعلان واشنطن في الخامس والعشرين من تموز 1994 الذي أنهى رسميا حالة الحرب بين الأردن وإسرائيل والتي استمرت زهاء 46 عاماً.
وعلى الصعيد الدولي، تمكن الأردن في عهد الراحل الكبير، من إقامة شبكة من العلاقات الدولية القائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة مع عدد كبير من دول العالم وشعوبه بفضل سياسة الراحل الحكيمة وقدرته على مخاطبة الرأي العام العالمي والتعامل مع القادة والرؤساء خاصة قادة الدول صاحبة صنع القرار.
وخلال سني حكمه كان الحسين، طيب الله ثراه، يؤمن بالمبادئ والقيم التي كانت تدعو إلى السلام والتسامح والوفاق والمساواة والعدالة حتى تمكن من جعل الأردن نموذجاً ومثلاً يحتذى به في الوسطية والاعتدال.
وفي السابع من شباط عام 1999 كان الأردن - الأرض والإنسان - في وداع الحسين وسط حشد من قادة العالم في جنازة وصفت بأنها "جنازة العصر" وكان ذلك الحضور دليلاً على مكانة الحسين بين دول العالم كافة، ومكانة الأردن واحترام الشعوب والقادة له ولقائده.
ومنذ أن تسلم جلالة الملك عبد الله الثاني الراية، وهو يواصل المسيرة بكل حكمة واقتدار، حيث استطاع بفضل سعة افقه وحنكته ودرايته التعامل مع الأحداث الإقليمية والدولية التي شهدتها السنوات الماضية بكل حكمة وعزم وحزم، حتى أصبح الأردن محط إعجاب وتقدير دول العالم نظرا لإصراره على الانجاز وتوفير الحياة الكريمة لأبنائه، كما يشهد الأردن نقلة نوعية في مختلف مجالات التنمية الشاملة، ويحرص جلالة الملك على التواصل مع أبناء شعبه ويطلق على الدوام مبادرات تنموية تستهدف دفع العملية التنموية نحو الأمام، والتركيز على مشاركة جميع القطاعات خاصة الشباب والمرأة في مجالات التخطيط والتنفيذ، وقد أرسى جلالته علاقات قوية ومتينة مع دول العالم، ما انعكس على متانة الاقتصاد الأردني وسمعة الأردن الدولية، وليبقى الأردن كما أرادته قيادته الهاشمية الحكيمة، منارة حق وهداية وتطلع نحو غد أفضل.