تنهمر الدموع على وجنتي آسيا المليئتين بالنمش وهي تنظر من حولها إلى الزجاج المتناثر والمحال المهدمة والمقاهي المهشمة في ما كان سابقاً شارعها المفضل للتسوق في مدينتها الرقة.
وفي المقعد الخلفي لسيارة تتجول ببطء في شارع تل أبيض في مدينة الرقة، تقول آسيا (35 عاماً) "هذه كانت أحلى بلد، يا الله".
وتطل من نافذة السيارة إلى الشارع، وتضيف "انظروا حولنا، انظروا إلى منازلنا (...) كيف سنستطيع العيش؟".
وآسيا من المدنيين القلائل الذين تمكنوا الجمعة من دخول مدينة الرقة بعد ثلاثة أيام على دحر عصابة داعش منها وسيطرة قوات سوريا الديموقراطية، فصائل كردية وعربية مدعومة من واشنطن، عليها بالكامل.
وأعلنت قوات سوريا الديموقراطية الجمعة في احتفال في الملعب البلدي في وسط المدينة رسمياً "تحرير" المدينة التي وصفتها بـ"عروس الفرات". لكنها أكدت عدم قدرة المدنيين على العودة إليها إلى حين الإنتهاء من عمليات التمشيط وإزالة الألغام المنتشرة فيها من كل حدب وصوب.
وحصلت مجموعة صغيرة من المدنيين من أقارب مقاتلين في قوات سوريا الديموقراطية أو مسؤولين محليين نازحين من المدينة الجمعة على تصريح دخول إلى المدينة ليوم واحد فقط.
وشارك هؤلاء بالاحتفال في الملعب البلدي وتمكن بعضهم من رؤية ما تبقى من منازلهم.
بعد الانتهاء من الاحتفال، جالت آسيا وأطفالها الأربعة في سيارة استأجرها زوجها المقاتل في قوات سوريا الديموقراطية في حي الرميلي في شرق المدينة للبحث عن منزلهم.
وقالت آسيا "ضُرب منزلي. رأيته ويا ليتني لم أره. عرفته من اغراضي على الارض، يا ليتهم سُرقوا وبقيت الجدران".
كانت آسيا تنتظر اللحظة التي ستتمكن فيها من العودة إلى الرقة التي فرّت منها إلى مدينة الطبقة التي تبعد 70 كيلومترا إلى الغرب من الرقة وسيطرت عليها قوات سوريا الديموقراطية في وقت سابق من العام الحالي.
إلا أنها وبعدما رأت الدمار الذي حل بمدينتها، تقول "صُدمت بما رأيت ويا ليتني لم أعد. كنا نقول سنترك منزلنا في الطبقة ونعود الى الرقة، ولكن كيف؟. الآن لا أريد أن أعود. كل الذكريات الحلوة أصبحت مأساوية".
ولم يتمكن المدنيون من دخول منازلهم او الاقتراب من أنقاضها حتى خوفاً من الألغام التي تركها الجهاديون.
ويعم الدمار مدينة الرقة بالكامل ما يجعل من الصعب التعرف على معالمها، لكن من الممكن تحديد بعض الأماكن من خلال لافتة تشير إلى عيادة طبيب أطفال أو بقايا قماش وآلات حياكة في متجر.
وقدّرت الأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر الماضي أن 80 في المئة من مساحة الرقة باتت غير قابلة للسكن. وتعاني المدينة حالياً من غياب كامل للبنية التحتية الأساسية.
في الأحياء الواقعة على أطراف المدينة والتي تمت استعادتها في بداية الهجوم ضد الارهابيين الذي بدأ منذ أشهر طويلة، منازل مدمرة وأخرى انهار سقفها او خلعت أبوابها.
إلا أن المشهد بدا صادماً في وسط المدينة، وكأن حارات تحولت بأكملها الى أنقاض، فلم يعد من الممكن التفريق بين منزل ومتجر. كل شيء بات مجرد جبال من الركام، حجارة وأنابيب وأسلاك.
وفوجئ أعضاء من مجلس الرقة المدني الذي من المفترض أن يتسلم إدارة المدينة وملف إعادة إعمارها، بهول ما رأوه من دمار جراء المعارك الضارية التي دامت أكثر من أربعة أشهر.
وتقول المحامية والعضو في المجلس فاضلة الخليل (34 عاما) "فرحنا أكيد (بالعودة) ولكن هناك دمار وآلام وحزن".
وتضيف "لم تبق أبنية، ولا بنية تحتية ولا ملامح حياة نهائياً"، مضيفة "دخلت (الرقة) وفعلاً لم أعرفها، كل شيء ممزوج بالدمار. لم أعرف الشوارع والمباني".
ولم تتمكن الخليل من البقاء سوى ساعات قليلة في مدينتها الرقة التي تجولت فيها أيضاً على هامش مشاركتها في احتفال قوات سوريا الديموقراطية.
وتقول الخليل "لا اعرف أي أخبار عن أخوتي وصديقاتي من المدينة (...) كنت أتمنى أن نعود سوياً ونلتقي في الرقة".
وتتوقع الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية أن يتطلب تنظيف الرقة وإعادة إعمارها جهوداً ضخمة، وشهوراً عدة قبل أن تعود الحياة إليها.
قبل أسابيع فقط، كان محمود محمد يعرض مع زملائه في لجنة إعادة الإعمار في مجلس الرقة المدني خططتهم لبدء العمل في المدينة.
وقد قسموا العمل الى أجزاء على أن يبدأ من أطراف المدينة إلى داخلها، ومن إزالة الالغام الى رفع الأنقاض والنفايات ثم إعادة تأهيل شبكات المياة والكهرباء والصحة والمدارس.
الا أن محمد صعق بحجم الدمار.
ويقول الشاب البالغ من العمر 27 عاماً "عندما دخلنا إلى المدينة، تغيرت خططنا تماماً. الوضع أسوأ بكثير مما كنت أتخيله".
ويأخذ محمد صوراً لشارع تل ابيض المدمر تماماً بهاتفه الجوال. ويضيف "كنا نرى صوراً للمدينة من قبل لكننا لم نعرف او نتوقع أن نراها بهذا الشكل".
إقرأ أيضاً: ماكرون: السيطرة على الرقة ليست نهاية المعركة ضد داعش
ويشير محمد إلى مجموعة من المتاجر المتراصة جنباً الى جنب، ويقول إن عائلته كانت تمتلكها ومن بينها مراكز إغاثة وأخرى محال لبيع الملابس الداخلية.
ويضيف "كنت تجد في هذا الشارع كل ما يخطر في بالك"، ثم يهز رأسه بأسف ويتمتم قائلاً "دمار هائل، اكثر مما كنا نتصور".
وتمر إلى جانب محمد شاحنة بيضاء تتصاعد منها موسيقى ويرقص في الجزء المكشوف منها مقاتلون من قوات سوريا الديموقراطية يرفعون علامات النصر.
ويرفع أحدهم بندقية ويصرخ قائلاً "الرقة تحررت يا خيو".