مجتمعاتنا التي كانت تفيض بالعفة والكبرياء والكرامة وعزة النفس تواجه احتمالية فقدان بعض هذه السمات والخصائص التي كانت مصدر فخر العربي واعتزازه وانفته.
العوامل التي حافظت على تماسك المجتمعات العربية واستمرارها وتميزها تتغير بسرعة مدهشة تجعلك تتسائل عما اذا كنت تعيش في المجتمع الذي وصفته القصص والحكم والاشعار والروايات التي طالعناها او مجتمعات القرى والبوادي والاحياء التي رعت طفولتنا وشبابنا.
في الايام الغابرة كان العربي يتظاهر بالغنى حتى وان كان لا يملك قوت يومه فالغنى غنى النفس والكل يحرص على ان لا تكشف حاجته فلا يسأل الناس مهما نال منه الجوع والعوز..القيم التي ظلت ملازمة لمجتمعاتنا هي التي كانت تدفع بابناء العروبة ان يقدموا لضيوفهم افضل ما لديهم من طعام وشراب ويتصدقوا على من هم بحاجة بخيار طعامهم وشرابهم دون تردد ويهدون اصدقائهم اثمن واجمل ما يملكون.
في ثقافتنا كان الخير عميما قبل ان تنشأ الجمعيات الخيرية التي عملت على مأسسة التسول واخذت على عاتقها التسول نيابة عن الناس وباسمهم فجففت منابع الخير واوجدت طبقة من الرجال والنساء الذين احترفوا مهنة التوسط بين المحسنين والمنتفعين وانتشرت على طول البلاد وعرضها لتصبح مهنة من لا مهنة له.
العمل الخيري التطوعي جهد انساني نبيل يقوم على استثمار فائض المال والوقت والطاقة التي يملكها المتطوعون ووضعها في خدمة المجتمع من اجل التصدي لمشكلاته وتحقيق رفاه الانسان وسعادته. الاصل ان يتصدى لهذا العمل من يملك هذه الموارد وليس الاشخاص الذين لا يملكونها.
اليوم هناك الاف الجمعيات التي اقامها البعض وا طلقوا عليها اسماء ابائهم وامهاتهم او اختاروا لها اسماء براقة تبعث على التعاطف يمارسون التسول والجباية الداخلية والخارجية باسم الفقراء دون توفر الرقابة او التدقيق على ما يقومون به.
بعض هؤلاء الاشخاص حقق ثراءا فاحشا فانتقل من الحي الشعبي الذي يسكنه والشقة المستاجرة الى فيلا عصرية واستبدل سيارة الاسرة القديمة باسطول من السيارات التي تستخدم الوقود التقليدي والطاقة الكهربائية.
في مجتمعنا البسيط الطيب امبراطوريات خيرية ترفدها اعلانات تلفزيونية واذاعية تبشر الناس بحلول لمشكلاتهم المادية وازماتهم وتستدرجهم للتسول والسؤال جراء مماطلتها في انفاذ وعودها بالمساعدة.
الكثير من الاسر والطلبة الجامعيين وربات الاسر اصبحوا يتسولون علانية لعد ان نجحت الجمعيات الخيرية في نشر ثقافة وادبيات السؤال عبر الاعلانات والدعايات والبرامج الدينية وحملات توزيع المعونات التي تذهب للقرى والبادية بمرافقة الكاميرات التلفزيونية التي تتولى تصوير النساء والاطفال وهم يتدافعون لينالوا نصيبهم من الطرود التي يقدمها وسطاء العمل الخيري ويصورون من يتسلمونها لاقناع المتبرعين بان اموالهم قد ذهبت في المسار الصحيح.
في الكثير من احياء العاصمة يمكن ان تصادف في اي يوم عادي متسولون بهيئات جديدة لم نعتاد عليها من قبل . فقد يصادفك رجل عريض المنكبين ذا اطلالة مهيبة ليقول لك بانه طالب طب في احدى الجامعات الاردنية وانه لا يمانع من يغسل سيارتك او يقوم باعمال تنظيف المكتب كل ذلك ليتمكن من الانفاق على دراسته. ما يدهشني ان معظم من صادفت من هؤلاء الشباب كانوا طلاب طب.
وقد تصادفك شابة انيقة ذات مظهر يوحي بانها ابنة طبقة متوسطة لتقدم لك رواية غالبا ما تبدأ بعبارة " لا تفهمني غلط" وتستمر في عرض قصة تصلح ان تكون سيناريو لحلقة دراما اجتماعية من نوع ان احد الابناء في مستشفى خاص وزوجها يغسل كلى بعد ان تعرض الى حادث مروري اصابه بالشلل لتقول لك في نهاية العرض الدرامي بانها لا تعرف السبب الذي دفعها لتفاتحك بالموضوع لكنها توسمت في ملامحك الخير.
على الدولة ان تراجع موقفها من كل الجمعيات الخيرية التي اصبحت معاهد للتدريب على التسول ونشر ثقافته وعلى لوردات التسول اينما كانت مواقعهم والتدقيق على ثرواتهم ومصادرها... ما يحدث لمجتمعنا خطير للغاية فهي عملية سلب ليس لاموالنا وخيراتنا بل لقيمنا وتراثنا واحساسنا بالكرامة والعزة والغنى والعفة والكبرياء التي يحاول الدجالون والدجالات سلبنا اياها تحت عناوين الخير والعطاء.