بالرغم أنني من مواليد الريف الاردني الا اني اعتبر نفسي عمانيا بامتياز فقد امضيت جزءا من طفولتي اتنقل بين قرية مولدي في جوار مدينة الطفيلة واحد اقدم احياء عمان حيث تقيم مئات الاسر من اقاربي وابناء القرية التي نزح اهلها الى العاصمة منذ نهاية ثلاثينيات القرن الماضي بحثا عن مصادر الرزق بعد ان ضاقت عليهم الديار من جراء تكرار سني القحط التي اجتاحت الجنوب في تلك الاعوام.
معرفتي بعمان لا تقتصر على المعالم التاريخية ومراكز الخدمات والمرافق السياحية والتجارية التي يعرفها الناس ويستخدمونها كعلامات استدلال على العناوين والامكنة , بل تمتد لتشمل الجبال والمتاجر والسكان والعائلات اضافة الى نقاط الجذب السياحي والثقافي والتجاري فقد اتاح لنا العيش في الحي المطل على مركز المدينة وشوارعها الرئيسة تكوين تصور حول ابعاد واتجاهات الجبال والاحياء والدوائر الحكومية والخلفيات الثقافية والاجتماعية والعرقية للسكان وطبائعهم.
كنا نعرف المتاجر واصحابها والشركات وملاكها والمطاعم وماكولاتها واسعارها كما كنا نعرف بعض طبائع الناس من خلال انخراطنا المبكر في بعض انماط العمل الجزئي التي يوفرها الشارع للصبية في اعمار المدرسة في المحال التجارية وبيع الصحف وغيرها من الاعمال الجزئية التي كانت توفر للعديد منا حاجاتهم السنوية من الملابس ومستلزمات الحقيبة التعليمية وبعض المدخرات التي طالما استخدمناها لتغطية نفقات اشتراكنا في الرحلات المدرسية والنشاطات الكشفية والرياضية.
في عمان كانت شوارع الهاشمي والسلط ووادي السير وبسمان والشابسوغ والصاغة هي شرايين المركز التجاري الذي يشكل قبلة كل القادمين الى عمان من الداخل والخارج , وعلى جنبات هذه الشوارع تتناثر المحلات التجارية التي تحمل اسماء اصحابها وشركائهم . فمن خلال لوحات الاسماء التي تخطط على الجزء العلوي من الابواب كنا نتعرف على الاسر المشتغلة بالتجارة ويحرص اصحابها على الحفاظ على حسن السمعة والسيرة من خلال التحلي بقيم الامانة والصدق ومنظومة الاخلاق التي كانت اهم معايير النجاح بعيدا عن مدونات السلوك والنزاهة وشهادات الايزو وتقارير هيئات الرقابة التي اصبحت هي المعايير الوحيدة التي يعتد بها تجار هذه الايام.
إقرأ أيضاً: صبري اربيحات يكتب لرؤيا : اصلاح القضاء..الممكن...والمستحيل
اليوم اصبحت الكثير من المحلات التي الفناها وعرفنا اصحابها وسمعتهم اثرا بعد عين, فقد رحل بعض اصحابها عن الدنيا ويأس الابناء من ان يستمروا في منافسة تجار المجمعات التجارية الكبرى ( المولات ) التي تنامت لتصبح اهم ملامح التسوق في احياء مدننا القديمة والحديثة.
المتاجر القديمة التي كان اصحابها ادلاء ومعرفين يحرصون دوما على رضا زبائنهم يفهمون ظروفهم فيتيحون لهم فرص التسليف ويحرصون على ادامة الثقة من خلال علاقات فيها من الاحترام والموثوقية والحرص المتبادل على ادامتها ما يجعلها احد اهم انماط العلاقات في مجتمعاتنا المحلية.
خلال نهاية الاسبوع الماضي قمت بصحبة افراد اسرتي بجولة في احد اهم المجمعات التجارية لعمان الغربية لنشاهد النافورة الراقصة التي اعلن عنها مرارا ومجسم الداينصور الذي استخدمه المجمع لجذب الاطفال وذويهم . ومن غير عناء يذكر دخلنا الى مرآب المجمع الذي اقيم في الدرك الاسفل من المبنى قبل ان نتجه باحثين عن النافورة والداينصور الذين لم نلمح لهما اثرا. وبالسؤال عن النافورة الراقصة اجابنا احدهم بانها اعتزلت الرقص .
اما فيما يخص الداينصور فقد ابلغنا احد المتجولين في طبقات المجمع بانه انقرض... في واقعنا الذي يتغير من حولنا دون ان نتغير كثيرا هناك احساس بالاحباط والخداع والاغتراب الذي ولد لدى البعض منا روح الدعابة وشيء من خفة الدم التي ظن البعض اننا نفتقر لها.
الذرة والفستق والبليلا والترمس التي كانت تقف عربات باعتها على مداخل الاسواق والدخلات ويضيفون الفة ودفء وحميمية للمكان جرى استبدالها بطواقم جديدة من الصبايا الحسان في خطوى تتسق مع تنامي اعداد المجمعات العملاقة وثقافتها. اليوم يختفي من فضائنا العام الكثير من الرجال والشباب الذين توارثوا مهن الباعة المتحولون الذين احسسنا لسنوات انهم جزء لا يتجزاء من الفضاء الحضري العام لمدننا الموحشة.