تتابعت المحاولات السريعة والغاضبة لشرح ما حدث الثلاثاء الماضي، حين روَّج أنصار هيلاري كلينتون لها بصفتها المرشحة الرئاسية الأفضل على الإطلاق في سباق الانتخابات. فكيف يمكن أن تخسر أمام سياسي مبتدئ، بل عنصري متنمّر.
كانت العنصرية بالتأكيد عاملاً مهماً، حيث وجد عدد كبير من الدراسات أن أنصار ترامب يحصدون درجات عالية على مقاييس الاستياء العنصري. كما يعد التمييز الجنسي أيضاً، جزءاً من القصة، بحسب ما ذكرت صحيفة The Nation الأميركية.
تعرضت هيلاري كلينتون لوابل من الهجمات الكريهة المستمرة المعادية للمرأة من جانب ترامب وأنصاره ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي. لذا فلا عجب أن تكون الفجوة بين الجنسين (24 نقطة) هي الأكبر في تاريخ الانتخابات الرئاسية.
العنصرية وكراهية النساء
وإذا كنت مازلت تتساءل عما إذا كانت العنصرية وكراهية النساء قد لعبَا دوراً كبيراً في هذه الانتخابات، فالعديد من أعمال العنف والتحرش التي استهدفت النساء والأشخاص ذوي البشرة الملونة، التي حدثت في أعقاب فوز ترامب، يجب أن تقضي على أي شكوك متبقية.
لكن كما هو الحال في أي انتخابات، كانت نتائج الثلاثاء الماضي متعددة الأسباب. وأود التعريف بمتهم إضافي، وهو عدم المساواة الاقتصادية، أو بشكل أكثر تحديداً، عدم المساواة الاقتصادية بين النساء.
دعمت النساء ذوات البشرة الملونة كلينتون بفارق كبير، وهو أمر مفهوم، لأن الديمقراطيين على مر التاريخ كانوا يهتمون بمصالحهن بدرجة أكبر مقارنة بالجمهوريين. إلا أن النساء البيض، مع ذلك، ساندن ترامب بهامش كبير وكن عاملاً جوهرياً في فوزه.
بالرغم من ذلك لم تؤيد جميع النساء البيض ترامب، إذ كانت هناك فجوة واسعة في أصواتهن. يُنظَر إلى البالغات اللائي لا يمتلكن شهادات جامعية باعتبارهن ممثلات عن الطبقة العاملة. وبينما أيدت النساء البيض اللاتي تلقين تعليماً جامعياً، هيلاري على ترامب بفارق 6 نقاط، اختار نظراؤهن البيض غير المتعلمات بالجامعة ترامب بفارق 28 نقطة. أضف هذا إلى وجود فجوة طبقية عميقة بين هذه المجموعة، وصلت إلى 34 نقطة، وهي أكثر بـ10 نقاط من تلك الفجوة القياسية بين الجنسين.
مواضيع محرمة
تُعد الفوارق الطبقية بين النساء من المواضيع المحرمة تقريباً. إلا أن بعض الباحثين، مثل ليزلي ماكول، وجدوا أن عدم التكافؤ الاقتصادي بين النساء بنفس حجم عدم المساواة الاقتصادية بين الرجال، كما يزداد بنفس السرعة. وقد خلقت هذه الفجوة الاقتصادية بين النساء واحدة من أوجه الخلل الأكثر أهمية في الحركة النسوية المعاصرة. يعود هذا إلى أن النساء المتميزات على المستوى العملي واللائي حصلن على حصة غير مناسبة من المكاسب النسوية، هيمنّ على الحركة النسوية، بينما ازدادت الفجوة الاجتماعية بينهن وبين أخواتهن الأقل حظاً اتساعاً.
في العقود التي تلت فجر الموجة الثانية، حصلت النساء المتعلمات على وظائف ذات مكانة مرموقة، بينما تعرضت الطبقة العاملة من النساء لانخفاض في الأجور (وبسبب زيادة حالات الطلاق والآباء/الأمهات العازبات بين الطبقة العاملة) تحملت عبئاً ثقيلاً من الرعاية على نحو متزايد. مع ذلك كانت المجموعات النسوية والمثقفين يهتمون دائماً بالقضايا الاجتماعية والثقافية التي تهم المرأة المترفة، بينما تُهمش الشواغل الاقتصادية لجموع النساء.
بلغت هذه الانقسامات الطبقية بين النساء مرحلة حرجة في انتخابات عام 2016، عندما خيّبت الحركات النسوية آمال النساء، بشكل كبير، إذ باعت لهن فكرة أن انتخاب رئيسة امرأة من شأنه أن يحسّن أوضاع الكثير من النساء. ورددن فرضية شيريل ساندبرج المشكوك فيها، وادعين أن القيادة النسائية ستعود بالنفع على جميع النساء، رغم أن أدلة العلوم الاجتماعية حول هذا الزعم متفاوتة في أحسن الأحوال. كان هناك أيضاً الكثير من الحديث حول كيف سيؤدي وجود امرأة في منصب الرئاسة إلى "تطبيع" قوة الإناث.
لكن إذا كنتِ امرأة تعيشين على راتب الوظيفة وتقلقين بشدة بشأن الإمكانيات الاقتصادية المتناقصة لك ولأطفالك، فأنت على الأرجح لن تهتمي كثيراً بتحطيم إحدى المليونيرات السقف الزجاجي (الذي يمنع النساء من تولي المناصب الهامة).
مرشحة معيبة
ما أدى إلى تفاقم المشكلة هو أن كلينتون، الشخص الذي افترضت عضوات الحركات النسائية أن الطبقة العاملة من النساء سيرين أنفسهن فيها (لأن هذا هو ما شعرن به هن في النهاية؟) كانت مرشحة معيبة بشكل مؤلم. فبالإضافة إلى سجلها السياسي الذي امتلأ بالخيانة للنساء، والملونين، والعمال، والدوائر الرئيسية الأخرى، أظهرت هيلاري غطرسة وسوء تقدير بالغين عبر إلقاء خطب وول ستريت وإنشاء خادم بريد خاص بها في وزارة الخارجية. كان هذا تقصيراً سياسياً جسيماً.
كانت بعض من مقترحات السياسات العامة لكلينتون قوية، خاصة خططها لإجازة الأسرة مدفوعة الأجر وتوسيع دائرة رعاية الطفل. لكن كلينتون لم تجد طريقها أبداً لصياغة رسالة مؤثرة تقنع الناخبين بأنها تهتم بشأن الناس مثلما يفعلون. وهو ما بدا واضحاً في راحتها أثناء إلقاء الخطابات على أثرياء وول ستريت عما كانت عليه في حملتها الانتخابية.
كما كان شعار حملتها إشكالياً، شعار "أنا معها" الذي يحمل نكهة الفتيات الطائشات. لماذا لا يكون شعاراً أكثر شمولاً وديمقراطيةً، مثل "إنها معنا"؟ إلى جانب ذلك، ووسط لحظة الشعبوية المرتفعة تلك، فإن ظهورها المتكرر مع مشاهير جذابات مثل لينا دونهام وكيتي بيري لم يكن ذا فائدة.
وتأتي إخفاقات كلينتنون كمرشحة رئاسية بالطبع من بين الأسباب التي تجعلني غير متيقن بأن التمييز على أساس الجنس بين الناخبين هو الذي حدد مصير نتائج الانتخابات (رغم أنه لعب دوراً بلا شك). لا يبدو السبب الأرجح في نهاية المطاف هو النوع الاجتماعي بل فشلها في التواصل مع جمهور الناخبين.
من السهل تخيُّل نساء ديمقراطيات أخريات، أبرزهن الديمقراطية النشيطة إليزابيث وارن، ينتزعن النصر في هذه الانتخابات. على العكس من هيلاري، تتمتع وارن بميزة أنها ليست واحدة من مهندسي السياسات الفاشلة في الماضي (اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، وإلغاء القيود عن وول ستريت، وغيرها...) التي ساعدت في خلق الاضطراب الاقتصادي العميق الذي عانى منه عدد كبير من مصوتي الطبقة العاملة.
كما ظهر إلى السطح التدمير الذي ألحقته سياسات بيل كلينتون بالمناطق الريفية التي تعاني الآن من الاضطهاد في الولايات المتأرجحة مثل أوهايو وميشيغان وبنسيلفانيا لتلاحق هيلاري. وعصف انسحاب الصناعات الكبرى والأضرار الاجتماعية والاقتصادية المصاحبة له بأهالي هذه المناطق، وهم بصورة كبيرة من البيض والطبقة العاملة الذين شهدوا انخفاض مستويات المشاركة في القوى العاملة، وانخفاض معدلات الانتقال، وانتشار أوبئة المخدرات، وأكثر من ذلك.
احساس بالانهيار
في تقريره من مدن "حزام الصدأ" في الجنوب الغربي لولاية أوهايو وشرقي ولاية كنتاكي، وصف الصحفي أليك ماكجيلز "الإحساس العام بالانهيار الذي يُثقل كاهل المدن التي تملأ مخازن الأدوية والمحلات المرهونة شوارعها الرئيسية المتداعية، بينما تقف "المباني الفيكتورية" في حالة انهيار، شاغرة. يمكن الشعور بالانهيار الاقتصادي والاجتماعي بشكل حاد على نحوٍ خاص في هذه الأماكن المهملة عندما تُقارن بمدن أميركا الساحلية، التي تمضي قدماً. مثّلت عدم المساواة الإقليمية الصاعدة بكل تأكيد واحدة من العوامل المؤثرة في هذه الانتخابات، مثلما حدث في خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.
في هذه المجتمعات المكونة من البيض من الطبقة العاملة، فإن النساء هن مَن يواجهن بعضاً من أسوأ المصاعب. ربما تكون سمعت عن تلك الدراسة الشهيرة التي أظهرت تراجعاً غير مسبوق في طول العُمر بين الأميركيين البيض من غير الحاصلين على شهادات جامعية.
لكن غالبية التقارير الصحفية غاب عنها نقطة هامة: كما أشار متخصص الإحصاء أندرو جيلمان "منذ عام 2005، ارتفعت معدلات الوفيات بين النساء في هذه المجموعة، من دون الرجال". وبالإضافة إلى عدم الاستقرار الاقتصادي وتزايد معدلات الوفيات، عانت نساء الطبقة العاملة من أمر مهين آخر: عدم ظهورهن.
أثناء الحملة، كان هناك سيل من المقالات حول مخاوف نخبة النساء الجمهوريات ورجال الطبقة العاملة البيض، لكن وبشكل عملي لم يوجد أي شيء عن نساء الطبقة العاملة. لخّصت تمارا دراوت، واحدة من الصحفيين القلائل الذين شغلوا أنفسهم بالحديث عن نساء الطبقة العاملة، الألم الذي يشعرن به جرّاء تهميشهن، قائلةً: خلال العشرات من المقابلات التي أجريتها مع نساء الطبقة العاملة عبر البلاد، تكرر شعور عام مشترك: يشعرن بأنهن غير ظاهرات في شؤوننا السياسية والاقتصادية والثقافية. يشعرن بأن قادتنا السياسيين لا يهتمون لأمر معاناتهن أو آمالهن، من المعاناة اليومية للتوفيق بين العمل وتقديم الرعاية وحتى حلم وهب أطفالهن مستقبلاً أفضل عبر الجامعة، بدون إغراقهم بالدين الثقيل.
منذ الانتخابات التي جرت الثلاثاء الماضي، وعبر كافة مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الرئيسية، ظل الليبراليون يطلقون التنديدات الهستيرية بأفراد الطبقة العاملة البيض. إلا أن نوبات غضبهم حول "البائسين" ستتسبب فقط في تغذية وحش اليمين المتطرف برد فعل شعبوي عنيف.
وكما غرّد أليك ماكجيلز "لا يمكن المبالغة في القدر الذي تقوده عملية ازدراء وسائل الإعلام الكبيرة لهذا الأمر (حجم التأييد لترامب)". يدرك البيض من الطبقة العاملة تماماً أن النخب الليبرالية تحتقرهم، شُكراً جزيلاً لكم. وهناك أمر تغفل عنه النخبة الليبرالية وهو أن العنصرية تجاه البيض من الطبقة العاملة الذين يبغضونهم بحق هي ذاتها قد استفحلت بسبب الاقتصاد المنهار (أوضحت الدراسات أن العنصرية تزداد خلال الأوقات الاقتصادية المتردية).
هزيمة الترامبية
إذا أردنا أن نُنهي هذا الكابوس ونهزم "الترامبية" مرة واحدة وإلى الأبد، علينا اكتشاف طريقة لكسب هؤلاء المصوّتين في صفنا مرة أخرى. لا يبدو أن لدينا خياراً في هذا الشأن. يُمثل الأفراد البيض من الطبقة العاملة ثُلث جمهور الناخبين تقريباً. لن يتمكن الديمقراطيون من الفوز في الانتخابات الوطنية دون اجتذاب المزيد من أصواتهم. وعلى نحوٍ واضح، لا ينبغي على التقدميين أبداً أن يستهدفوا مخاطبة عنصرية والتمييز الجنسي لدى المصوتين (فلندع ذلك للجمهوريين). لكننا لدينا على الأقل قاعدة واحدة قوية لبناء أرضية مشتركة: الاقتصاد.
تتسم النساء البيض من الطبقة العاملة بأنهن أكثر انفتاحاً من الرجال تجاه المناشدات التقدمية (62% منهن صوتن لترامب، في مقابل 72% من نظرائهن من الرجال). ويعني هذا أن المسار الواعد للتقدم هو أن نستنهض الهمم من أجل أجندة اقتصادية قوية تركز على احتياجات النساء: 15 دولاراً حداً أدنى للأجور، ورعاية شاملة للأطفال مَن دون سن الحضانة، وإجازة عائلية مدفوعة الأجر، وتعليم جامعي مجاني، وقوانين صارمة تضيق الخناق على سرقة الأجور وتضمن توزيع عادل ومساواة في الأجور للنساء.
واحدة من نقاط القوى في أجندة مثل هذه هي أنها موجهة خصيصاً للنساء. وفي اقتصادنا الجديد الشجاع، ستساعد سياسات مثل هذه أعداداً متزايدة من الرجال العاملين الآن تحت ظروف عمل محفوفة بالمخاطر -أجور منخفضة، ومنافع ضئيلة، وحماية متدنية إن وُجدت بالأساس- وهي التي لطالما ميّزت العمالة من النساء. لن يكونوا فاضلين أخلاقياً فحسب، لكن عمليين سياسياً كذلك.
لكن ليس الحزب الديمقراطي فقط الذي يحتاج بشدة للإصلاح. تحتاج الحركة النسوية هي الأخرى لإعادة توجيه نفسها. سيتّسم أنصار الحركة النسوية بالحكمة للتخفيف من حدة النظرة الضيقة لثقافة البوب وهراء النسوية الزائفة للشركات العملاقة مثل كتاب Lean In.
إنهم يحتاجون لنقل تركيزهم الأساسي من الحواجز الوهمية والسقف الزجاجي إلى الواقع المضطرب حيث توجد معظم النساء. يمكن للنسوية التي تخاطب نساء الطبقة العاملة عبر مخاطبة احتياجاتهن المادية أن توسّع قاعدة الحركة النسوية وإحداث إحياء نسوي تحتاجه الأوضاع الحالية بشدة. ويمكن للنسوية التي تُقدم لنساء الطبقة العاملة عبر مخاطبة احتياجاتهن المادية أن توسع قاعدة الحركة النسوية بصورة جذرية.
وحين تصبح النسوية مرة أخرى حركة جماهيرية نابضة بالحياة بدلاً من أن تكون شأناً نخبوياً، من المستحيل تقدير مدى التأييد الذي ستحظى به.