كشف التعداد السكاني الأخير، الذي أجرته دائرة الإحصاءات العامة نهاية العام الماضي، مقدار ما أصاب الأردن من تحولات عميقة، وأصاب الأردنيين من تغييرات جمة طاولت أدق تفاصيل حياتهم، وما قد يترتب جراء ذلك من إعادة نظر في الاستراتيجيات والخطط الحكومية كافة.
أكثر من ثلاثين في المئة من السكان في الأردن من غير الأردنيين، هو أبرز ما أظهره التعداد السكاني الأخير، غير أن البيانات الإحصائية الأخرى لا تقل أهمية في هذا السياق، خاصة تلك المتعلقة بالقطاعات الخدمية.
وزارة المياه والري تمكنت خلال السنوات الخمس الماضية من اجتراح حلول خلاقة، وتوفير مصادر مائية جديدة، لكن حجم التحديات كبير، ومصادر المياه التقليدية محدودة، ما يدفعها، حسب مسؤولين فيها، للإسراع في تنفيذ مشاريع مائية استرتيجية، قد تكون هي الخيار الوحيد أمامها لمواجهة الطلب المتزايد على المياه.
وزارة الطاقة استوعبت الصدمة الأولى، ووفرت احتياجات المملكة من مصادر الطاقة كافة، وسرعان ما عادت الأمور إلى نصابها الطبيعي، وأخذت خططها تتوائم مع متطلبات الزيادة الطبيعية للسكان، بل إنها عدلت من خططها الاستراتيجية، ويتوقع أن يشهد الأردن في غضون سنوات ارتفاع نسبة الاعتماد على مصادر طاقة غير تقليدية، تنتج محليًا.
العمالة الأردنية أكثر الأطراف تضررًا من ارتفاع وتيرة اللجوء السوري وغيره إلى الأردن، والعمال باتوا اليوم يدركون أن التحدي لم يعد يكمن فقط في إحلالهم محل العمالة غير الأردنية التقليدية، بل في عمالة رخيصة، لا يتطلب الواحد منها الحصول على تصريح عمل، أو قطع حدود المملكة.
الأمر لا يتوقف عند العمالة والماء والطاقة، فبيانات قطاعات التعليم والصحة والنقل وغيرها من القطاعات، وما شهدته من تغييرات جوهرية في بناها، تؤكد أننا إزاء تحولات عميقة فيها، ينبغي الإمساك بناصيتها، فهل تعلمت الحكومات الدرس وأصبحت تدير استراتيجيات، أم إنها ما زالت تدير أزمات؟
وثيقة الإسقاطات السكانية، التي من المتوقع الإعلان عنها خلال أسابيع، حددت معالم الفرصة السكانية، وأصبح من الواضح أن ما ستقدمه هذه الوثيقة من بيانات عن الفترة بين عامي ألفين وعشرين وألفين خمسين سيعين الحكومات في وضع خططها المناسبة.
الفرصة السكانية، حالة خاصة، تجتهد الشعوب والأمم للوصل إليها، وكان من المفترض أن نصل إليها عام ألفين وأربعين، لكن أزمات المنطقة وآثارها الكارثية على الأردن، ستؤجل هذه الفرصة أكثر من ربع قرن.
تحولات ديموغرافية عميقة أصابت الأردن في السنوات القليلة الماضية، غيرت من الخصائص السكانية، وخلقت تحديات جسام، لا يمكن الركون معها إلى خطط واستراتيجيات حكومية أصبحت من الماضي، فهل تتعظ الحكومات أم سنبحث بعد سنوات القضايا ذاتها التي نناقشها اليوم؟